عقلٌ مختومٌ بالشمع الأحمر
”يعني إيه واحد من الشارع يجي ماشي كده ويرفع قضية على كاتبة عندها خمسة وأربعين مؤلف! هي الدنيا فوضى؟!“.. انطلقت هذا الكلمات الجريئة مُفعمة بروح الثقة المعهودة من المُفكرة الدكتورة ”نوال السعداوي“، مُدافعةً عن حقها في حُرية التعبير عن آرائها كمُفكرة ذات علمٍ غزير وثقافة عميقة أمام سطوة الجهل ووقاحة التفاهة التي تُصور للجهلاء أن لهم الحق في مُحاربة العلماء والمُبدعين والمُفكرين وتدبيس أفواههم والتقليل من شأنهم ومُطاردتهم بأسلحة الترهيب والإهانة.
ينزف قلمي هذه الكلمات بحُزنٍ غزير، وحتى هذا النزف الحزين ما كان بالإمكان أن يكون لي الحق به لولا أنني أكتب على صفحات صحيفةٍ تصدر من أحد بُلدان المهجر، يا لها من مُفارقةٍ تدفع للضحك بعينين غارقتين في الدموع: لا يُمكنك أن تُعبر تعبيرًا حُرًا عن آرائك وأفكارك ومشاعرك بلغتك الأم الأثيرة إلى روحك وقلبك إلا عبر وسيلة تعبير تصدُر من بلدٍ لغته مُختلفة! وحتى هذه الحُرية الصغيرة مُكبلة اليدين والقدمين بعشرات القيود التي تفرض عليك أن تظل داجنًا خوفًا من الجوع والموت والعار ومختلف صور الأذى لأن لا فرق بين مقامك بكل ما تملكه من علمٍ ومعرفة وبين أي ”واحد من الشارع“ يعتقد أنه أذكى وأرقى وأعرف وأوعى وأرفع شأنًا من الدكتورة نوال السعداوي، أو الأديب نجيب محفوظ، أو الشاعر نزار قباني الذي صرخ في وجه هذا الظلم بكلمات قصيدته التي تنعى هذا الواقع: ”لا تُفكر أبدًا فالضوء أحمر/ لا تُكلِّم أحدًا فالضوء أحمر، لا تُجادِل في نصوص الفقه.. أو في النحو.. أو في الصرف.. أو في الشعر.. أو في النثر.. إن العقل ملعونٌ، ومكروهٌ ومُنكر“.
لا تُفصح عن أي أفكار، لا تُعبِّر عن أي مشاعر، اشكر الله كثيرًا لأنك مازلتَ اليوم تتنفس وغدًا يتم استبدالك بروبوت لا ينطق إلا بالترهات التي يتم تخزينها في ذاكرته الحاسوبية ويمكن إخراسه بضغطة زر، اسمع نصيحة نزار قباني في قصيدته و”ابق سريًا ولا تكشف قراراتك حتى لذبابة.. ابقَ أُميًا ولا تدخل شريكًا في الكتابة“.
لا، تكالب الجُهلاء على المُبدعين والمُفكرين والعُلماء ليس حُرية تعبير إلا إذا سلَّمنا بأن لجحافل الحشرات الضارة حُرية الانقضاض على جسد الإنسان وطعامه وشرابه لتسميم صحته وقتله دون رادع، وبدلاً من مُحاولات إخراس المُبدع والمُفكر ذو المُنجزات الملموسة يجب إيقاف الجُهلاء والسخفاء عن جنونهم وهياجهم بذريعة ما يُسمونه ”حُريتهم في التعبير“، الحُرية مسؤولية يستحق حملها العالم والمُبدع والمُفكر المؤثر في المُجتمع ولا يستحقها جاهل ضئيل الوعي ضحِل التفكير، وما لم توضع النقاط على حروفها الصحيحة بتأديب الوضيع وتقدير الرفيع لن يكون لانحدار الفكر والوعي في مجتمعاتنا العربية إلا ما تنبأت به الدكتورة نوال السعداوي في أحد لقاءاتها الإعلامية قائلة: ”إذا واصلنا على هذه الوتيرة فسينقرض العرب، وسينهزموا، وسينتهوا من الوجود“.