تاج الحياء
﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتۡ إِنَّ أَبِى ىَدۡعُوكَ لِىَجۡزِىَكَ أَجۡرَ مَا سَقَىۡتَ لَنَاۚ﴾. القصص - 25
نُبل الحياة وعزها وفخرها أن تعيش المجتمعات في ظلال القيم، وتحت وارف الأخلاق التي يحملها، لأنها إرث جميل يجب أن يكون حاضراً مُصاناً كالكنوز والجواهر.
هذه القيم أراد لها المتربصون أن تُنسَف حتى تصبح مجرد ألفاظ ليس لها أي مضمون ولا تأثير على سلوكيات المسلمين، فانتهكوها باسم الحرية الشخصية والعصرنة والحداثة، وأصبحت مجرد شعارات تُزيّن بها الخطابات ولكنها واهية، ضعيفة، ممزقة..
”الحياء“ قيمة من ضمن القيم التي حُوربت ونُسِفت حتى أصبحت علامة من علامات التّخلف في عالمنا المعاصر، وفي ظل التواصل المعرفي المنفتح أصبح هناك صراع قوي بين المبادئ والقيم، وبين الدخيل عليها، حتى تزعزعت قناعات الناس بها ناسين ومتناسين أن هذه القِيم إنما تستمد قوّتها من ذاتها، وتناسقها وانسجامها مع الفطرة، وتكاملها وتوازنها مع الشريعة، فإن ذلك كله يمنحها القيمة والاعتبار.
الحياء لغة:
الاحتشام والوقار، ضد الوقاحة والسفاهة.
وعرّفه أهل العلم في اللغة:
انقباض وانزواء وانكسار في النفس يُصيب الإنسان عند الخوف من فعل شيء يعيبه.
شرعاً:
هو الخُلق النبيل الذي يبعث على فعل العمل الحسن وترك العمل القبيح.
وكلّما اشتدّ وازداد حياء المرء، كلّما ابتعد عن القبيح والمعاصي.
الحياء نوعان:
- الحياء الإيجابي أو الممدوح:
هو ذلك الّذي يجعل المرء يستحي من مخالفة الله وارتكاب نواهيه، والتجاوز لحدوده الشرعيّة، فهو حياء ينبثق من الخوف منه تعالى، ويعني الدقّة والحذر الشديدين في أيِّ أمر، فهو حياء إيمانيّ إلهيّ.
- الحياء السلبي أو المذموم:
هو الحياء المنبثق من عدم الثقة بالنفس، والخوف من مواجهة الناس على صعيد محادثة أو مقابلة، واظهار الحقّ وما ينبغي اظهاره، وهذا ما يُسبِّب الجمود والانطواء للشخص ويُضعف من شخصيّتة، ويقيّد طاقاتها ويعيق تقدُّمها وتطوّرها.
وبتعبير الرواية هو حرمان، فقد ورد عن الإمام عليّ :
«قُرن الحياء بالحرمان»
لأنّه يُحرم الإنسان من الخير الكثير.
أجمل ماتُشير اليه الآية الكريمة أن:
- الأديان الإلهية بشكل عام لا، ولم، ولن تُعارض خروج المرأة إلى الواقع الإجتماعي وتعاملها مع الرجل، وهو مايحاول أعداء الدين إثباته من أجل النيل من الإسلام والحط من قدره وشأنه وإبعاد الناس عنه.
- الدين لم ولن يُكمم أفواه النساء للحديث مع الرجال ولا العكس، فموسى تكلم مع ابنتي شعيب قال لهما «مَا خَطْبُكُمَا».
والفتاتان لم تقفا صامتتين بل:
«قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ»
- ولكن هناك شروط وحدود لهذا الكلام كما بينها الفقهاء:
1 - أن يكون الكلام للضرورة وبقدر الحاجة، ولايكون فيه خضوع أو لين أو ترقيق، فيطمع الذي في قلبه مرض فالنبرة اللينة واللهجة الخاضعة مرفوضة بل محرمة.
2 - لاينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الأجنبي هزل ومزاح ودعابة حتى لايكون ذلك مدخلاً للشيطان.
- ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء﴾
على للاستعلاء المجازي، تفيد التمكن من الوصف، أي تمشي غير مظهرة لزينتها ومفاتنها.
- هذه هي مشية الفتاة المسلمة العفيفة الفاضلة، بلا تبرّج ولا إغواء، بلا تصنع وتميّع في المشية، ولا إثارة في اللباس.
ما أجمل أن يأخذ الحياء بمجامع حركات وسكون المرأة، فلقد تحدثت ابنة شعيب ببساطة وبلا تكلّف وبأقل العبارات.
ومن المُلفت في دعاءٍ للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف أنّه يدعو لمجمل أصناف الأمّة، كلٌّ بما يُناسبه ويقوّمه ويحتاج إليه، إلى أن يصل إلى الدعاء للنساء فيدعو لهنّ بقوله :
«وامنن على النساء بالحياء والعفّة»
فلم يدعُ لهنّ بالتقوى مثلاً أو بالغنى، وإنّما بالحياء والعفّة، لأنّ هاتين الخصلتين في غاية الأهميّة للمرأة على صعيدها الشخصيّ الذاتيّ في التزامها وورعها وقُربها من خالقها،
وعلى صعيد صلاح المجتمع الّذي تُشكّل المرأة أحد مكوّناته الأساس.
فالحياء مطلوب للرجل، ولكنه للمرأة أكثر طلباً، فها هو الامام الصادق يؤكد على أن: «اَلحَياءُ عَشَرَةُ أَجزاءٍ فَتِسعَةٌ فِى النِّساءِ وَ واحِدٌ فِى الرِّجالِ».
كيف ننمي الحياء في نفوسنا؟
كيف نغرس ونطوّر ونقوّي هذه الفطرة في أولادنا وبناتنا؟
الطريق إلى الحياء نستشف بعضه من وصايا أهل البيت :
• أن نقوي معرفتنا بالله عز وجل حتى يعظُم في قلوبنا فنهابَه ونخافَه ونستحي منه.
عن الإمام زين العابدين :
«خَف اللهَ تعالى لقدرته عليك، واستحي منه لقُربهِ منك».
• استحضار المعية والمراقبة الإلهية فهي أصل لجميع الأعمال القلبية
«وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ» الحديد - 4
• معرفة النفس ومحاولة كبح جماحها وكسر شهواتها حتى لاتتعالى ولا تفعل مالا يليق.
قال أمير المؤمنين : «ينبغي لمن عرف نفسه أن يلزم القناعة والعفة».
• الابتعاد عن الذنوب والمعاصي فهي تميت القلب وبالتالي ينسلخ الحياء منه فلا يتأثر بفعل القبيح،
قال أمير المتقين :
«الحياء يصد عن فعل القبيح»
• الإنتباه لأبنائنا في مرحلة المراهقة وتوجيههم لمخاطر الأجهزة الذكية الموجودة بين أيديهم، ففيها من السموم ماتفتك بالأخلاق وتُحطّم القيم.
• تنمية روح العفاف والحياء في نفوس أطفالنا منذ الصغر، وإشباع حاجتهم من الحب والحنان والاهتمام.
وأخيراً
فلنعلّم أبناءنا وبناتنا الحياء، الذي سيعلمهم كل ماهو جميل من الفضائل والطاعات والخيرات.
قال الرسول الأمين ﷺ:
«الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ»
وقال أمير المتقين :
«الحَياءُ سَببٌ إِلى كلّ جَميل»
جمّل الله حياتنا بذكره وطاعته ورضاه
وأفاض علينا من رحمته ونوره وبصيرته