المبعث النبوي وبزوغ الإسلام
إن يوم المبعث النبوي الشريف يوم عظيم في تاريخ البشرية، إذ بُعث فيه النبي برسالة الإسلام، وبُعثت ببعثته المباركة حضارة جديدة في التاريخ، وحياة جديدة، وثقافة جديدة، ومجتمع جديد، وأمة جديدة.
وفي يوم المبعث النبوي الشريف نستذكر بدء النبوة، وتبليغ الرسالة، وولادة الإسلام، وانطلاق مسيرة بناء الشخصية المسلمة، وتغيير ثقافة المجتمع وفق مبادئ وقيم وأخلاق الإسلام، وتغيير حركة التاريخ كله.
وبعد أن كان المجتمع قبل البعثة يعاني من أمراض الجهل والتخلف والخرافة والأساطير والأوهام، بعث النبي بالرسالة، معلناً أنه النبي المرسل من قبل الله تعالى للناس، ليبدأ العمل على تزكية النفوس وتهذيبها، وتعليم الناس وتربيتها، فجاء مبعوثاً بالقرآن الكريم، ومزكياً لأنفسهم، ومهذباً لأخلاقهم، وحاملاً مشعل العلم والمعرفة لتنمية عقولهم، وقد أشار القرآن الحكيم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[1] ، فبتزكية النفوس، ونشر العلم والمعرفة تتقدم الأمم، وتتطور المجتمعات الإنسانية.
وكان النبي قبل البعثة ونزول الوحي عليه يتعبد في غار حراء - وهو كهف صغير في أعلى جبل النور[2] - ويقع في الشمال الشرقي من مكة المكرمة على يسار الذاهب إلى عرفات، فكان يخلو بنفسه للعبادة والتفكر والتأمل، وينقطع عن عالم المادَّة والماديات، ويتجه بكل مشاعره وكيانه نحو الله تعالى، وقد روي عنه أنه قال: «إنِّي كُنتُ أوَّلَ مَن آمَنَ بِرَبِّي، وأوَّلَ مَن أجابَ حَيثُ أخَذَ اللّهُ ميثاقَ النَّبِيِّينَ وأشهَدَهُم عَلى أنفُسِهِم: أ لَستُ بِرَبِّكُم؟ فَكُنتُ أنا أوَّلَ نَبيٍّ قالَ: بَلى» [3] .
وعندما بلغ النبي الأربعين من عمره الشريف، أتاه جبرائيل في غار حراء، ليبلغه بأنه المبعوث إلى البشرية جمعاء برسالة الإسلام، فألقى إليه كلمة الوحي، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الإنسانية، وهو القائل: «إنَّما بُعِثتُ فاتِحاً وخاتِماً» [4] .
وقد اختاره الله تعالى واصطفاه من شجرة الأنبِياء كما أشار الإمام عليّ إلى ذلك، - وهو يصف النَّبيِّ - قائلاً: «اختارَهُ مِن شَجَرَةِ الأنبِياءِ، ومِشكاةِ الضِّياءِ، وذُؤابَةِ العَلياءِ، وسُرَّةِ البَطحاءِ، ومَصابيحِ الظُّلمَةِ، ويَنابيعِ الحِكمَةِ» [5] .
وكان أوَّل وحي قرآني نزل بها جبرائيل على محمد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[6] ، وهذا الرأي هو المشهور بين المفسّرين[7] بناء على جملة من الروايات، ومنها ماروي عن الإمام الصادق: «أوّل ما نزل على رسول اللَّه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ وآخره: ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾» [8] ، وهناك قول آخر بأن أول سورة نزلت على النبي هي سورة المدثر، وقول ثالث بأنها سورة الفاتحة، لكن الرأي الأول هو الأشهر والأرجح.
وحمل رسول الله الدعوة إلى الله تعالى، ودعا قومه إلى عبادة الله وتوحيده، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وهي الدعوة التي نادى بها كل الأنبياء والرسل، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾[9] .
وروي عن الإمام عليّ: «فَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً بِالحَقِّ؛ لِيُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَةِ الأوثانِ إلى عِبادَتِهِ، ومِن طاعَةِ الشَّيطانِ إلى طاعَتِهِ، بِقُرآنٍ قَد بَيَّنَهُ وأحكَمَهُ، لِيَعلَمَ العِبادُ رَبَّهُم إذ جَهِلوهُ، وَليُقِرُّوا بِهِ بَعدَ إذ جَحَدوهُ، وَليُثبِتوهُ بَعدَ إذ أنكَروهُ» [10] .
وروي عنه أنه قال: «إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ؛ لِيُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَةِ عِبادِهِ إلى عِبادَتِهِ، ومِن عُهودِ عِبادِهِ إلى عُهودِهِ، ومِن طاعَةِ عِبادِهِ إلى طاعَتِهِ، ومِن وَلايَةِ عِبادِهِ إلى وَلايَتِهِ» [11] .
وبدأ النبي دعوته سراً لمدة ثلاث سنين، وفي الرابعة أعلن دعوته لجميع الناس، وتحمل في سبيل ذلك الأذى والآلام، فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى: «أقامَ رَسولُ اللّهِ بِمَكَّةَ ثَلاثَ سِنينَ مِن أوَّلِ نُبُوَّتهِ مُستَخفِياً، ثُمَّ أعلَنَ فِي الرَّابِعَةِ، فَدَعَا النَّاسَ إلَى الإسلامِ عَشرَ سِنينَ... حَتَّى إنَّهُ لَيَسألُ عَنِ القَبائِلِ ومَنازِلِها قَبيلَةً قَبيلَةً ويَقولُ: يا أيُّهَا النّاسُ، قُولوا: لا إلهَ إلَّا اللّهُ تُفلِحوا، وتَملِكوا بِهَا العَرَبَ، وتَذِلَّ لَكُمُ العَجَمُ، وإذا آمَنتُم كُنتُم مُلوكا فِي الجَنَّةِ. وأبو لَهَبٍ وَراءَهُ يَقولُ: لا تُطيعوهُ؛ فَإنَّهُ صابِئٌ كاذِبٌ!» [12] .
وقد أوذي النبي بما لم يؤذ نبي بمثله، وهو ما قاله رسول اللّه: «ما أُوذِيَ أحَدٌ مِثلَ ما أُوذيتُ فِي اللّهِ» [13] ، وعنه قال: «ما أُوذِيَ أحَدٌ ما أُوذيتُ» [14] ، ولكنه تحمل كل الأذى والألم الذي أصابه من أجل إعلاء كلمة التوحيد، وصبر حتى بزغ نور الإسلام، وأخذ في الانتشار تدريجياً حتى عمّ الكون كله.
السراج المنير
بعث النبي إلى الأمة ليكون شاهداً عليها، فهو شاهد على أعمال العباد، وأعمالهم تعرض عليه، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾[15] ، وقد ورد عن الإمام علي: «أرسَلَهُ داعِيا إلَى الحَقِّ وشاهِدا عَلَى الخَلقِ، فَبَلَّغَ رِسالاتِ رَبِّهِ غَيرَ وانٍ ولا مُقَصِّرٍ، وجاهَدَ فِي اللّهِ أعداءَهُ غَيرَ واهِنٍ ولا مُعَذِّرٍ، إمامُ مَنِ اتَّقى، وبصَرُ مَنِ اهتَدى» [16] ، وعنه قال: «حَتَّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً شَهيداً وبَشيراً ونَذيراً، خَيرَ البَريَّةِ طِفلًا، وأنجَبَها كَهلًا، وأطهَرَ المُطَهَّرينَ شيمَةً، وأجوَدَ المُستَمطَرينَ ديمَةً» [17] .
وهو مبشر للمؤمنين والمحسنين بأن لهم الجزاء الجزيل والسعادة الأبدية والنعيم الدائم، وهو منذر للكافرين والعاصين بأن عقابهم عسير، وأنهم من الخاسرين في يوم القيامة ﴿وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾، والبشارة والإنذار من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله سبحانه، فللمؤمنين الجنة وهو ما يحفزهم نحو العمل الصالح ويجلبهم إلى طاعة الله ورسوله لأنه يحقق لهم المنفعة، وللكفار والعاصين النار وهو أداة زجر ونهي مما يدفعهم أيضاً للتفكير في دفع المضرة عن أنفسهم باتباع الدين وأوامره.
ثم يقول تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[18] ، فالنبي يدعو إلى الله تعالى لأنه مبعوث ومرسل منه إلى كافة الناس ﴿بِإِذْنِهِ﴾ للتأكيد على بعثته ونبوته، وهو سراج منير﴿وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ والسراج هو المصباح المنير والطارد للظلام، وهذا كناية عن أن وجود النبي هو مصباح ينير للناس طريق الحق والهداية والصلاح والخير.
وقد ورد ذكر السراج في القرآن الكريم في أربعة مواضع[19] : ثلاثة منها تشير إلى الشمس، وواحدة تشير إلى النبي، ومن المعلوم أن الشمس تستمد نورها من داخلها بخلاف القمر الذي يأخذ نوره من الشمس؛ وفي هذا إشارة قرآنية مهمة إلى أن النبي هو مصدر النور والضياء، فهو كالشمس الذي يشع نوره على الجميع، ويعمّ بضيائه الكائنات؛ فلنقتبس من نوره نوراً، ومن ضيائه ضياءً، ومن سراجه المنير شعاعاً مضيئاً!
مسؤولية المسلم
وبعد أن انتشر الإسلام بجهود رسول الله وتضحياته الكبيرة في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه، ونشر الأخلاق والعلم بين الناس؛ فإن مسؤولية المسلم في كل زمان ومكان هو حفظ الإسلام، والمساهمة في نشره والتعريف به، والالتزام به قولاً وفعلاً، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه؛ فمن أهم أهداف البعثة هو التحلي بالأخلاق الفاضلة، لما روي عن رسول الله: «إنَّما بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ» [20] ، وعنه قال: «إنَّ اللّهَ بَعَثَني بِتَمامِ مَكارِمِ الأخلاقِ، وكَمالِ مَحاسِنِ الأفعالِ» [21] .
وفي عصر سيطرت الأخلاق التجارية والمادية الجشعة على الحياة العامة فإن المجتمعات الإنسانية بحاجة ماسة للعودة إلى أخلاق الإسلام وقيم الإسلام ومبادئ الإسلام، والاقتداء بسيرة رسول الله والتأسي به، تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[22] .