تراحم أم تزاحم؟
في ريع قطاف أحلام اليقظة الصباحية، عصف بمخيلتي، بشدة، مصطلحان متناغمان ”تراحم وتزاحم“، ومع اختلافهما في المعنى والمقصد، إلا أن وشائجهما البنائية قادت باستضافتهما معًا، على ظهر قارب واحد؛ ومع اختلافهما في شكل المظهر، وجوهر المخبر، أيضًا.
حيث ”التراحم“ يعني التعاطف والمواساة، وأن يرحم الناس بعضهم بعضًا، وعادة ما يسعى لتوظيف وتسكين هدف إنساني مشترك سام؛
أما التزاحم، القابع في مؤخرة القارب، فيعني التدافع والتجمع والالتفاف العشوائي؛ وعادة ما يكون لإشباع مطلب فردي، أو تحقيق حاجة شخصية!
واختصارًا، عندما كنت تلميذًا، في المدرسة الابتدائية «الغالي»، التي تقع خارج أسوار ”قلعة تاروت“، وتحديدًا بمحاذاة طريق ضيقة، تؤدي غربًا إلى مفرق قرية الربيعية، ثم سنابس والزور، وكان قاطني القلعة «الديرة» يسكنون في بيوت حجرية تقليدية متلاصقة، تفصلها أزقة ”سوابيط“، والناس، آنذاك، تغلب عليهم البساطة، والتراحم والتدين والنخوة؛
ففي مناسبات الزواج مثلاً، ترى سكان الديرة كلهم مدعوين لتناول طعام الغداء والعشاء، تحت سقف واحد، وكذلك تقدم وجبة الإفطار في صباح اليوم التالي لدخلة العريس، ومثل ذلك المناسبة تتم مراسيم التزاور وإسداء واجب التبريكات في أيام الأعياد، وعند عودة أحدهم من حج بيت الله الحرام، أو أداء العمرة، أو زيارة الأماكن المقدسة، أو السفر للعلاج ونحوه، تراهم يحيُون المجالس والديوانيات؛ لاستقبال المهنئين من الجيران وغيرهم.
أما إقامة وإحياء مجالس العزاء والتأبين فلها قصة ومراسيم متوارثة، تبدأ منذ إعلان حالة الوفاة، وإعداد موكب التشييع، وإقامة مراسيم العزاء «الفاتحة»، وهنا أضع النقاط على الحروف، مستعينًا بوحي الذاكرة، وأكون شاهدًا حيًا، مستدعيًا، بتأمل واتزان، دعوة ودية للمصطلحين المتناغمين «التراحم والتزاحم» إلى امتطاء قارب واحد!، إذ أنه يوم وفاة أحد قاطني الديرة «رجل كان أو امرأة»، ترى الناس ”رجالاً ونساءً“ يتأهبون بحراك وجداني ذاتي للمشاركة في مراسم تشييع الجنازة، وحملها من قبل الرجال على الأكتاف في غمرة مقدمة موكب جنائزي مؤثر مهيب، وعادة ما يُختار الوقت ما قبل الظهر لاستهلال التشييع، والسبب: حتى تتمكن النساء من المشاركة في السير خلف موكب الجنازة، بعد أن أنهين أعمالهن وواجباتهن المنزلية، عندئذ تلحظ سكان الديرة قد خرجوا عن بكرة أبيهم كالأسرة الواحدة؛ للقيام بتشييع وتوديع الجنازة، تتقدمها صفوف الرجال في تزاحم منظم «من أجل كسب الأجر الثواب»، وكذا صفوف النساء في المؤخرة، وقد توشحن بالسواد، والكل يبوء بألفاظ الاستغفار، ويستظهر عبارات الانكسار، ويهدي أدعية الرحمة للمتوفى؛ متحدين في مِشية وقورة، خاشعة أمام عظمة الخالق الجبار!، وقد كنت وقتها أحد الواقفين بداخل سور المدرسة أتأمل بحزن وانكسار مسيرة الموكب الجنائزي، بقضه وقضيضه، ومن حولي اصطف بعض الطلاب والمدرسين في مشاركة وجدانية صادقة، فما كان مني، حينها، إلا أن استضيف في ثنايا مخيلتي كل تلك المشاهد الوجدانية المؤثرة، وأنا قف بإذعان وعرفان أمام عظمة الخالق المنان، ومسير الحدنان، مستظهرًا قول الله تعالى: ﴿كل نفس ذائقة الموت!﴾.
وفي أعتاب هذا الموقف الظاهر الحاضر في صهوة مخيلتي، تتجدد حدود ومسارات المصطلحين المتناغمين «التراحم والتزاحم»، حيث يذهب أثر التزاحم العشوائي المنبوذ هباءً منثورًا، ويسقط أجره، إلى ”يوم يبعثون“؛ وبالمقابل، يبقى ويتنامى أثر «التراحم» المشهود المحمود، قلبًا وقالبًا، وتخلد ذكراه، ويضاعف ثوابه، ويبقى أثره الإنساني السامي مغروسًا في وجدان ممن عاصروا تلك العقود الخالية؛ وهنا لا أجد عبارة اسمى وأنمى من قول: «الراحمون يرحمهم الرحمن!».