فلسطين من منظوري ترامب وبايدن
رغم التسليم بأن جميع الرؤساء الأمريكيين، منذ تأسيس إسرائيل، عام 1947، انطلقوا من التأييد الكامل لوجودها، والتعهد بحمايتها، وتوفير كل المستلزمات لجعلها الأكثر قوة بين جميع دول المنطقة، فإن السياسات حول تحقيق هذه الاستراتيجية، بين هؤلاء الرؤساء، لم تكن متماثلة باستمرار.
هذا الحديث ليس معنياً بمتابعة حالات الافتراق في الرؤية الأمريكية تجاه العلاقة مع إسرائيل، بشكل عام، بل هو مقتصر على الموقف الأمريكي من تسوية القضية الفلسطينية، وفي زمن محدد، هو فترة رئاسة دونالد ترامب، والرئيس الجديد جو بايدن.
إن الاختلاف في الرؤية بين الاستراتيجيتين، هو خلاف على ما ينبغي أن يكون من أجل تعزيز قوة إسرائيل، وهو خلاف تمتد جذوره إلى اختلاف بين الآباء المؤسسين لإسرائيل، كديفيد بن جوريون، وموسى شاريت، وليفي أشكول، وجولدا مائير، وشيمون بيريز، وحتى موشى دايان، الذين انضووا تحت حزب الماباي، الذي تحول لاحقاً إلى حزب العمل، وبين قيادات عصابات الهاجانا، وقد شكلوا حزب الليكود وعلى رأس قياداتهم مناحيم بن جوريون، واسحق شامير.
وهذا الخلاف بدأ منذ الانتداب البريطاني لفلسطين، وحسم لمصلحة المؤسسين، في السنوات الأولى لتأسيس إسرائيل، حيث هيمن «الليبراليون» على مقاليد السلطة منذ عام 1948م، حتى بداية الثمانينات من القرن الماضي، حين تمكن مناحيم بيجن من الفوز لأول مرة برئاسة الحكومة.
وطبيعي أن تكون الغلبة «لليبراليين»، لأنهم هم الآباء المؤسسون للمشروع، بزعامة ثيودور هرتزل، وهم الذين أسسوا الصندوق اليهودي، الذي تكفل بتغطية تكاليف مشاريع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبناء المستوطنات والمستعمرات الزراعية «الكيبوتز»، التي بدأت بالتشكل مع بداية العشرينات من القرن الماضي، مباشرة بعد وعد بلفور عام 1917.
والخلاف بين الليبراليين، واليمينيين الإسرائيليين، تعمق بعد حرب يونيو/ حزيران عام 1967، حين تم احتلال سيناء ومرتفعات الجولان السورية، والضفة الغربية ومدينة القدس الشرقية. وقد تمحور هذا الصراع لاحقاً، حول الموقف من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبعد معركة العبور، عام 1973م، انقسم الموقف الإسرائيلي، بين رؤيتين، رؤية الآباء المؤسسين، وعبّر عنها لاحقاً بوضوح شيمون بيرير، فيما عرف بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وترى أن ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة يلحق الضرر بالأمن الإسرائيلي، ويلغي يهودية الدولة، نظراً لتزايد أعداد الفلسطينيين العرب في أراضي عام 1948، والذي تجاوز الثمانية عشر في المئة، فإذا أضيف لهم سكان الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، فإن ذلك سيمثل تهديداً محققاً ليهودية إسرائيل.
وقد جاء هذا التطور متماهياً مع رؤية عالمية، عبرت عنها سياسات الحزب الديمقراطي في أمريكا منذ عهد الرئيس جيمي كارتر، حيث وقع مع نظيره السوفييتي، ليونيد بريجينف، في نهاية السبعينات بياناً مشتركاً، أكد أهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب يونيو/ حزيران عام 1967م.
وحين تسلم الرئيس ريجان الرئاسة في بداية الثمانينات تراجع عن موقف كارتر، وتحدث عن حكم ذاتي للفلسطينيين، بدلاً من الدولة المستقلة. ولم يختلف موقف الرئيس بوش كثيراً عن ذلك. لكنه بعد حرب الخليج عام 1990م، اقترح مؤتمراً للسلام، عقد في مدريد ترك الباب للمتفاوضين للتوصل إلى الاتفاق الذي يلبي مصالحهم. وكان خياره للسلام مرتبكاً وغامضاً.
وعاود الرئيس بل كلينتون نهج كارتر، في تبنيه للدولة الفلسطينية المستقلة، ورعى توقيع اتفاق أوسلو بين اسحق رابين وياسر عرفات في البيت الأبيض، ووضع توقيعه على الاتفاق، كشاهد على مضمونه.
موقف الرئيس ترامب، هو ذاته موقف اليمين الإسرائيلي وهو موقف منسجم مع النهج التوسعي وقضم الأراضي المحتلة الذي يتبناه نتنياهو، وترفضه قرارات مجلس الأمن الدولي، ومبادئ هيئة الأمم المؤكدة على حق تقرير المصير.
وموقف الرئيس بايدن تجاه التسوية، هو ذاته موقف الحزب الديمقراطي منذ نهاية السبعينات. وهو موقف ينسجم مع ما يطرحه قادة حزب العمل، من أمثال سيبني ليفني، وإيهود أولمرت، الذين يؤكدون في مقابلات متلفزة على محطات عالمية مثل «السي إن إن»، و«آر تي»، أن سياسات نتنياهو الحالية تجاه المسألة الفلسطينية، تشكل كارثة ماحقة على الوجود الإسرائيلي.
خلاصة القول، أن الاختلاف في السياسات الأمريكية تجاه المسألة الفلسطينية هي ليست مقتصرة على الرؤساء الأمريكيين، بل هي امتداد لتناقضات وصراعات داخل المجتمع الإسرائيلي، وقادة أحزابه.
ويبقى على الفلسطينيين والعرب، أن يكون لهم موقفهم الخاص بهم، المنطلق من ثوابتهم ومصالحهم وأمنهم القومي، بعيداً عن سياسات الهيمنة والقسر، وبما يضمن الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.