التجديد وآفاق الإصلاح
من البديهي القول، أنه كلما كثر التطور وتعددت أشكال التحول والتغير في حياة الإنسان الفرد والجماعة، كانت الحاجة إلى التجديد والاجتهاد أكثر إلحاحا.
وذلك لأن المستجدات الحياتية بحاجة إلى فهم ومعرفة وتحديد شرعي وعقلي لطريقة التعامل معها أو الاستفادة منها. فالحقائق الجديدة التي تجري في واقع المجتمعات الإنسانية، وعلى الصعد كافة. بحاجة إلى عملية تجديد فكري وثقافي لبلورة الموقف والرؤية المطلوبة تجاه هذه الحقائق. فتطور الحياة وتموجاتها المتعددة، بحاجة دائما إلى صناعة رؤية وبصيرة تجاهها. حتى يتسنى لنا كأفراد ومجتمعات من التكيف الإيجابي مع تطورات الحياة. فالتطور في الحياة يؤسس لأسئلة وتحديات جديدة، والإجابة عليها يحتاج إلى عملية اجتهاد وتجديد.. وهكذا فالعملية متداخلة مع بعضها البعض.. فالتطور يؤسس لضرورة التجديد والاجتهاد، كما أن التجديد في الرؤية والفكر يفضي إلى التطور النوعي في الحياة.
من خلال هذه المفارقة أو الحقيقة الوجودية، تنبع أهمية التجديد والاجتهاد في كل العصور وفي مختلف المواقع والظروف. والاجتهاد والتجديد وفق هذا المنظور المنضبط بضوابط المعرفة والاستنباط، هو وسيلة الحفاظ على مصالح الإنسان فردا وجماعة. إذ أن قصور الأطر التشريعية عن مواكبة متغيرات الحياة وتطوراتها، يجعل الكثير من المصالح والمنافع الخاصة والعامة عرضة للتلف والنهب والتعدي. والاجتهاد والتجديد وفق منهج واضح ومشروع، هو الذي يوفر الأحكام التشريعية التي تستوعب متغيرات الحياة ومستجداتها. وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي في كل الأزمنة والأمكنة هو الإنسان. والباري عز وجل لا يكلف الإنسان ما لا يطيق ومالا يسعه العمل به. قال تعالى [لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين] «1»
والتجديد هو عملية عقلية فكرية مستمرة، يتواصل من خلالها اليوم والأمس، وتتقاطع عندها جملة الخيارات الفكرية والإستراتيجية المطروحة في حوارات دائمة وحركة دوؤبة تتجه إلى اختيار الأنسب والأصلح من هذه الخيارات.
وبهذا المنظور فإننا ننظر إلى عملية التجديد، باعتبارها عملية شاملة، وتتطلب جهود الجميع في مواقعهم المتميزة وإمكاناتهم الواضحة.. فالتجديد ليس عملية ذهنية محضة، بل هو عملية حياتية شاملة، وتستوعب كل الطاقات والقدرات، وتحتاج إلى كل الامكانات الإنسانية المتوفرة.
والتجديد الذي نقصده، لا يقع خارج الأدلة الشرعية والمقاصد الكبرى. وإنما هو من داخل هذه الأدلة والمقاصد. كما أن التجديد لا يعني التكييف التعسفي بين وقائع العصر والنصوص الشرعية، وذلك لأن عملية التكييف التعسفي لا تفضي إلى تجديد ثقافي ومجتمعي، وإنما تؤدي إلى بتر المسلمات العقدية والفكرية عن وقائع الراهن. فالتجديد كما يعبر عن ذلك أحد المفكرين المعاصرين بأنه استمرار متطور للتاريخ، وحركة رعاية دائبة للنتاج الإنساني بين البداية والغاية، تقتضي التصحيح والتصويب حينا، والخلق والإبداع حينا آخر؟ وبالتالي فإن عملية التجديد من الضروري، أن تخضع لمعادلة متوازنة وواعية بين الزمني واللازمني، بين التاريخ والغيب، تحفظ للفكر الإنساني دوره في كونه امتدادا للحكمة الإلهية، وللتاريخ الإنساني موقعيته في كونه صلة بين حقائق التكوين والهدف من التكوين في حركة التطور الحضاري. لذلك فإن عملية التجديد بكل مستوياتها ومجالاتها في صيرورة مستمرة، تتعامل مع حياة الإنسان وتقلباتها وتحولاتها على هدى الكتاب والسنة. ويخطأ من يتصور أو يتعامل مع التجديد باعتباره مشروعا متحررا من كل الضوابط المعرفية والعقدية.
فالتجديد ليس تفلتا من الضوابط والقيم، بل هو قراءة عميقة للنص والواقع تفضي هذه القراءة الواعية إلى خلق فضاءات معرفية جديدة على قاعدة النص، وليس بعيدا عن مضامين النص المفتوح على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية. لذلك من المهم التفريق بين مصطلحي التجديد والاستلاب.. فالاستلاب هو في أحد جوانبه التطور البعيد عن فهم النص وقاعدته المتينة وضوابطه الحضارية.. بينما التجديد الذي ندعو إليه، ونعتبره ضرورة من ضرورات الحياة في كمل عصر، فهو التطور الإنساني المستند على النص فهما وروحا وتجليا.. لذلك كلما تعمقنا في فهم النصوص الدينية الخالدة، توفرت لنا ممكنات إنسانية للتطور والتقدم والتجديد.
لذلك فإننا نعتقد أن التطور القانوني والفقهي في الدائرة الإسلامية، كان نتيجة في أحد جوانبه إلى المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية، وما استحدثته هذه المتغيرات من وسائل وامكانات لفهم ووعي الأسس والمرتكزات التي تستند عليها عملية التجديد في التجربة الإسلامية. فعملية التجديد مفتوحة على الواقع بكل إمكاناته وتفاصيله، كما أنها في ذات الوقت تتواصل بشكل علمي مع النص لاستنطاقه والبحث في آفاقه وأحكامه ضمن الضوابط الشرعية لهذه العملية. فالنص متحرك في مضمونه وآفاقه، لأنه يتحدث عن فكرة وتشريع بل ومنهج، ومن الطبيعي أن الفكرة والتشريع والمنهج لا يمكن أن يحكم عليهم بالتجمد، لأن كلا من الفكرة والتشريع والمنهج يمكن له أن يتحرك بأفق واسع وفي إطار رحب. وعليه فإن ملاحقة الواقع بمتغيراته ومكتسباته يرافق عملية الاجتهاد والتجديد من حيث حركته في الموضوعات المتغيرة والجديدة، أو من حيث حركته في المجالات والحقول المتعددة. واستمرت هذه الحاجة عبر العصور المختلفة، وناقشها الكثير من العلماء والفقهاء لتكييف الواقع مع الشرع أو بتعبير آخر لجعل التشريع الإسلامي مواكبا لقضايا العصر المستجدة والمتطورة. أضف إلى ذلك فإن الفقه في جوهره ومفرداته، هو استجابة للبيئة والظروف والتطورات التي حدثت في ذلك أو هذا العصر.
وعليه كما يقول أحد المفكرين المعاصرين، فإن مقولة ثبات النص لا تحول أبدا دون مواكبته لحركة الإنسان في الزمن، ولا فرق بين «ادفع بالتي هي أحسن» و«وجادلهم بالتي هي أحسن» بلحاظ حركيتهما، وبين أية قاعدة أو مقولة فقهية من قبيل «لاضرر ولا ضرار» و«ما جعل عليكم في الدين من حرج» بما تختزنان من حركية ومرونة تشريعية اجتماعية. لأن الضرر لا يمكن له أن يتجمد في عنوان دون آخر، وصورة دون صورة أخرى، وكذلك الحرج فإنه يختلف بحسب اختلاف الأزمان والأشخاص والأوضاع والحيثيات. ولاشك أن حيوية مضمون النصوص، وعدم وقوفها عند حد من حدود الزمان والمكان، يفتح لنا الكثير من إمكانات التجديد وملاحقة الوقائع المعاصرة من داخل دائرة النص وضوابطه التفسيرية والاجتهادية. لذلك فإننا نستطيع القول: أن التجديد استنادا على النص وبالتقنية الاجتهادية المشروعة يفتح الكثير من الآفاق، بحيث لا تبقى واقعة بعيدة عن النظام الفكري والاجتهادي العام.
وإننا نرى أن التجديد من خارج هذه الدائرة، يؤدي إلى الكثير من التداعيات والآثار السلبية الخطيرة، وفي ذات الوقت يمنعنا من الاستفادة من الثروة المعرفية والقانونية التي توفرها النصوص الثابتة في الشريعة، والتي هي تتجاوز حدود الزمان والمكان. بمعنى أن مهمة المجتهد والمجدد هي في فهم النص بلحاظ الزمان والمكان ومتغيراتهما، دون حبس النص في هذه الظرفية التاريخية. وبهذا فإن عملية التجديد من داخل دائرة النص لا يمكن أن نعنونها بأنها عملية العقل المستريح أو المستقيل، وذلك لأن الدين الإسلامي لا يأبى استقبال المفردات والوقائع الجديدة، لأن الدين مثلا عندما يأمر بالعدل، ويأمر بالإحسان، فإنه يتحدث عن مفهوم يتحرك حسب المعروف والعدل والإحسان في حياة الناس المتحركة وفقا لتطور الحياة. فالمجدد وفق هذا المنظور يتعامل مع التاريخ العلمي بمراحل الزمن المختلفة، دون أن تأسره هذه الإنجازات أو تجمد عقله أو قدرته على التفكير والإبداع الفكري. والجمود الذي يلف حياتنا ويكتنف حقول أعمالنا وممارساتنا، ليس من جراء قصور النصوص من استيعاب متغيرات الحياة كما يتوهم البعض، وإنما هي من جراء عدم خلق علاقة سليمة مع النصوص. لأن هذه النصوص تتضمن قواعد وكليات قادرة على الإجابة على كل الأسئلة والمتغيرات. فحينما يقول تبارك وتعالى [ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل] فإن هذه الآية الكريمة تؤسس لقاعدة أساسية للتعامل في عملية نقل المال وتملكه والتصرف فيه، وهي قاعدة تمتلك من المرونة ما يجعلها متحركة وفاعلة ومنفتحة على المستقبل كما هي منفتحة على الحاضر والماضي.
و”ضوابط الاجتهاد هواد لا كوابح تعيق الحركة وهي موجهات لمن يعالج الفقه أن يتأهل لذلك وللمخاطبين أن يقوموا المجتهدين حسب كسبهم من العلم والتقوى وليست حدودا شكلية منضبطة يظل المتعلم مقلدا حتى يبلغ حرفها ويظل المجتمع متميزا بها بين عامة معزولة عن تكاليف التفكر في الدين“. «2»
لذلك فإن استنطاق النصوص والقواعد الكلية للشريعة، كفيل بتزويدنا بالإجابات والبصائر التي نحتاج إليها في حياتنا المعاصرة. والدور المنهجي المطلوب في هذا الصدد، الانفتاح على كل الأدوات والآليات المعرفية التي تساهم بشكل أو بآخر في عملية الاجتهاد والتجديد. ولا ريب أن البحث عن التجديد وأشكال الاجتهاد المختلفة من خارج النص والسياق الحضاري للأمة، يقبر ويقتل جوهر عملية الاجتهاد والتجديد. إذ أن هذا الخروج يعد وفق المقاييس والمعايير المعرفية والحضارية تجاوزا تعسفيا للروح العلمية والموضوعية، وذلك لأنها تخضع النص لمسبقات فكرية ويقينيات سابقة، مما يدفعنا إلى القول والجزم أن هذه العملية أقرب إلى الخضوع إلى المزاج والهوى والميول منها إلى البحث الموضوعي الذي ينشد الحقيقة بصرف النظر عن المسبقات والقناعات السابقة.
وفي إطار الصيغة المنهجية لعملية الاجتهاد والتجديد في الإطار الفكري والمعرفي نؤكد على نقطتين أساسيتين وهما:
فهو المنهج العلمي والموضوعي الذي ينبغي الاستناد إليه في عملية التجديد. ولقد استفاضت آيات من القرآن الحكيم في مقام الاعتماد على مقتضى العقول وحجيته. قال تعالى [وفي الأرض قطعا متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأُكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون] «3» وذم قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم فقال عز ذكره [يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون] «4».
فما تبتت حجيته بدليل قطعي من شرع أو عقل أخذ به، وما لم تثبت حجيته أي لم يقم على اعتباره دليل لا يؤخذ بالاعتبار في عملية الاستنباط والتجديد. وقال تعالى [وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون] «5».
ولما كان الظن اتباعا لغير العلم والحجة لم يأذن به الله عز وجل، ولم يكن ليغني عن الحق. لهذا فإننا نرى أن من المسائل المنهجية الكبرى، التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في عملية التجديد، هو استناد هذه العملية في كل مراحلها ومستوياتها إلى منهج الحجة والاتكاء الدائم على العلم الذي هو طريق انكشاف المعلوم ورؤية الواقع المقطوع به.
تعددت نظريات العلاقة بين النص والواقع، وازدحمت في هذا الإطار الأيدلوجيات والأطر الفكرية التي تُنظر لهذه المسألة. وبعيدا عن المضاربات الفكرية والأيدلوجية حول هذه القضية، نوضح رأينا وقناعتنا في طبيعة العلاقة بين النص والواقع في الآتي.
إن تبدل الأحكام الشرعية الثابتة للموضوع المحدد، ليس نابعا من متغيرات العصر، وإنما نتيجة لطروء عناوين ثانوية على الحكم أو أحد متعلقاته. والواقع الذي هو العنصر الآخر في المعادلة هو الوعاء الذي يحتضن أو يستوعب العناوين الثانوية. وهي كثيرة في الشريعة الإسلامية من قبيل الضرر والضرورة والحرج والعسر والعجز والإكراه والجهل واختلاف أحوال الموضوعات بفعل الزمان والمكان «التاريخ والجغرافيا» وتبعية الأحكام للموضوعات. فبفعل هذه العناوين وأشباهها تتحول الأحكام من حال إلى حال على حد تعبير العلماء، فيصير المباح واجبا أو حراما، وقد يتحول الواجب إلى حرام أو الحرام إلى واجب. فهذه العناوين الثانوية، تمنح الرؤية التشريعية مرونة كبيرة في مجال الابتلاء والتطبيق. ووفق هذه الرؤية يتم استيعاب مساحة الواقع المتحركة بالنصوص الشرعية الثابتة. بمعنى أن النصوص الشرعية في هذا الإطار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول النصوص التي تتولى البعد الثابت في الواقع الإنساني من قبيل علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالمجتمع والآخرين وعلاقته بنفسه وأسرته وبالأشياء من حوله. والقسم الثاني طائفة من النصوص تتولى استيعاب الواقع الإنساني المتغير وإعطاء المرونة في الحكم الشرعي في مجال التنفيذ والممارسة بمقتضى متطلبات الواقع. بشرط أن تكون العوامل والعناوين التي تكون سببا في تبدل الحكم الشرعي ومرونته في الظروف الواقعية المختلفة معرّفة ومحددة من قبل المشرع نفسه.
وبما أن الحياة والواقع هي مادة الأحكام الشرعية، لذلك فإن أي قطيعة بين الفقه والواقع ستكون على حساب ثراء الفقه وجدواه. لذلك نجد أن القرآن الحكيم نزل منجما حتى تتحد فيه النصوص مع الحياة. وبهذا لا يتورط الفقيه أو المجدد في منهجه بألفاظ النصوص فقط ولا في الوضعية الذرائعية التي تخلد إلى الواقع. لأنه يريد أن ينزل المثال على الواقع ويضبط الواقع على حكم المثال.
لذلك كله فنحن بحاجة دائما إلى الإتكاء في مواقفنا وأحكامنا على الحجة والبرهان، ونبتعد كل البعد عن تلك الآراء التي لا تستند على دليل عميق بحيث تكون جميع قناعاتنا ومسلماتنا مستمدة من العلم والمعرفة والوعي العميق بوقائع الأمور.
والمسلم المعاصر أحوج ما يكون اليوم، إلى تطوير نمط علاقته بالنصوص، حتى تصبح علاقة حيوية وفاعلة وبعيدة عن كل أشكال الحرفية والجمود. فالعلاقة الواعية مع النصوص، هي وسيلتنا لإزالة كل أشكال الغبش الذي حجب عنا الرؤية السليمة، وأدخلنا في متاهات ودهاليز، عمقت الفهم القشري لتعاليم الدين، وأخرجتنا من صميم الحركة التاريخية.
فلا مناص لنا اليوم إلا تجديد وعينا بالإسلام، فهو وسيلتنا للتمكن في الأرض والدخول النوعي في مسيرة الحضارة المعاصرة. فالتجديد ليس خضوعا لضغوطات الواقع وليس توفيقا تعسفيا مع حاجات العصر، وإنما استنطاق أصيل بثوابت النص لاستيعاب المتغيرات وتقديم الحلول والإجابات وفق القواعد العامة والأصيلة.
والدين بالمفهوم العام هو محاولة توحيد بين المثال الأعلى المنزل من السماء وواقع الابتلاء الظرفي القائم في الأرض. فالمثال والواقع ينطويان على مفارقة هي صميم الابتلاء. والتدين هو محاولة توحيدهما، حتى تدار الحياة بصروفها المتقلبة بوجه يلتزم الحق الواحد في كل حال.
ومن المؤكد ومع انتشار حركة الصحوة الإسلامية، يتطلع اليوم الكثير من أبناء الأمة الإسلامية إلى إقامة حياة إسلامية تتوحد فيها مصالح دنياهم بصلاح آخرتهم. لذا فإن الانتقال إلى فقه المجتمع يتطلب بيان مناهج الإسلام وتشريعاته إنطلاقا من الواقع والحياة لا الفرضيات والمجردات. ويقول العلامة الفرنسي في الفقه المقارن «إدوارد لامبير» ”أن في الفقه الإسلامي كنزا مخبوءا ينتظر من يجلوه لعالمنا المعاصر، ليهتدي بهديه ويسترشد بمنطقة في الحيرة المدلهمة التي أعجزت عالمنا الآن عن التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر وصرفة عن التوفيق الحكيم بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع“ «6».
فالاجتهاد والتجديد والفهم المقاصدي للدين، لا يعني بأي حال من الأحوال الاندماج في البنى المعرفية والمنهجية الحديثة، بل يعني تطوير نظام الفهم والمعرفة لقيم الدين ومبادئ الإسلام.
فالتجديد عملية تواصل عميق بين النص والواقع، إذ لا تجديد حقيقي في الدائرة الإسلامية، إلا على قاعدة الإسلام، ولكي يتم تجسيد قيم الإسلام في الحياة، يحتاج أن نتعرف بعمق على حركة الواقع بكل مجالاته وآفاقه، وهكذا تجمع عملية التجديد فقه النص وفقه الواقع، ومن خلال التفاعل الحيوي بينما تنتج الرؤى الجديدة والبصائر الرسالية التي تفضي إلى إقامة القسط والعدل في المجتمع والحياة. ومن خلال الأصول والقواعد والمقاصد العامة للدين، تتم الاستجابة للمتغيرات، وتتبلور الحلول الواقعية للمشكلات الخاصة والعامة. فالجمود الفكري والمعرفي لا يمتلك إمكانية إستنطاق النص ولا التفاعل مع الواقع مما يؤدي إلى غربة مزدوجة.. غربة عن النص بآفاقه ومضامينه الحيوية والمتحركة، والواقع بتياراته واندفعاته وممكناته وتموجاته. وهذه الغربة المزدوجة، هي تعمق خيار الجمود واليباس الفكري والمنهجي.. لذلك فإن إرساء معالم التجديد الفكري والمنهجي في الواقع الإسلامي المعاصر، يتطلب بإستمرار العمل على طرد كل عوامل الجمود واليباس من واقعنا وفضائنا المعرفي والاجتماعي.. فالجمود بمتوالياته النفسية والمجتمعية، هو العدو الأول للتجديد.. لذلك فإن العمل على نقد أسس الجمود، هو الخطوة الأولى في مشروع التجديد الفكري والمنهجي. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني نفي صفة التراكم في عمليات الاجتهاد والتجديد، ولكنه لتحرير المجدد من سلطة المسبقات التي قد لا تنسجم وروح النصوص الإسلامية.. وبالتالي فإن التجديد يتطلب رؤية مفتوحة وعميقة على المنجزات العلمية والفقهية السابقة لاستيعابها وفهم نظامها وروحها الداخلية، دون الانحباس فيها.. بمعنى أن استمرار التراكم العلمي والفقهي، يتطلب التواصل العميق من هذه المنجزات، دون الوقوف عندها، وإنما العمل على الإضافة عليها وتطوير حركتها العلمية والتاريخية.
فالتجديد لا يساوي القطيعة وعدم التواصل مع المنجزات العلمية السابقة، بل يعني التواصل الواعي معها، وامتلاك القدرة العلمية والإمكانية المنهجية للإضافة عليها.
لهذا فإن التعمق في الدرس الفقهي، يعد ضرورة ماسة لكي يتمكن المجدد من إنجاز مفهوم التواصل العلمي والمنهجي.. التعمق الذي يبتعد عن أشكال التكديس والتوصيف، ويذهب إلى روح العلم والقيم الأساسية التي تقف ورائه، والعدة المنهجية التي تم الاستناد عليها في عملية الاجتهاد والاستنباط.
وبالتالي فإن مواكبة العصر، وخلق إطارات فكرية ومعرفية جديدة، والشهود والحضور الدائم في كل مساحات الحياة، هي الوظائف والمهام المتوخاة من عملية التجديد والاجتهاد.
فالتجديد ليس سجالا أو مماحكة بلا أفق، وإنما هو استنطاق النص وخلق الإجابات على هداه في موضوعات الحياة المختلفة لذلك فإن ”أي عمل على إسقاط جدوائية العقل الإنساني المدعو في النص الشرعي المعتبر بحجة الله الباطنة في تحمله لدوره الذي يستحق سينتهي في النهاية إلى استمرار العجز التنظيري في المساهمة الحضارية، وبقاء الفشل في صياغة مناهج وأنظمة كفوءة في ساحات الاقتصاد، والسياسة، وما إلى ذلك من مفاصل الحضارة المعاصرة. هذا وأن إلغاء الإنسان العاقل من طريق الاجتهاد الديني تحت ذريعة أن النص الديني يغنينا عن ذلك، يتنافى مع أوليات الفهم الصحيح لمدلول الوحي، وما أحتل العقل فيه من هامش كبير وموقع متميز يمكننا في ظله استنباط واستنطاق النص المتمثل في الوحي، والحديث الشريف“ «7»
والاجتهاد المقاصدي، لا يمارس اعتباطا أو بعيدا عن مقتضيات النصوص، وإنما هو بحاجة إلى دراسة عميقة للنصوص الشرعية «الكتاب والسنة» مع إطلاع وتواصل معرفي مع المتون الفقهية، واستيعاب لملاكات الشريعة، وإطلالة دائمة على الواقع بتحولاته وتطوراته.
والقرآن الحكيم هو المرجعية العليا، التي تحدد مقاصد الدين والشرع، لذلك فإن الاجتهاد والفهم المقاصدي للدين، يتطلب علاقة حيوية ودائمة مع القرآن الحكيم، حتى يتسنى لنا من خلال آيات الذكر الحكيم من تحديد المقاصد ونظام أولياتها. والمفردات القرآنية كما هو معلوم، تستوعب كل لحظات الزمن، وتحتضن كل الظروف، لذلك فإننا نستطيع من خلال التدبر في آيات الكتاب العزيز من بلورة منهج الفهم والاجتهاد المقاصدي للدين وقال تعالى [وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون] «8».
وإن متغيرات الحياة المتلاحقة، ينبغي أن لا تدفعنا بعيدا عن مرجعيتنا الفكرية والعقدية، لأن هذا الابتعاد لا يؤهلنا على المستويين الذاتي والموضوعي لفهم واستيعاب هذه المتغيرات. إن القبض على تطورات الحياة، لا يتم إلا بتفعيل وتطوير العلاقة مع النص الشرعي والعمل على استنطاقه بعيدا عن أرضية الجمود والركود ومنظومات الاستلاب والارتداد.
وجماع القول: إن عقولنا ينبغي أن تنفتح وتتواصل مع كل المنجزات المعرفية والعلمية، وتستمع إلى كل النظريات والمقولات، وتتبع أحسنها وما ينسجم والمضمون الحضاري للإسلام. قال تعالى [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب] «9»
فالمطلوب هو أن نمارس التفكير ونوظف كل طاقاتنا وإمكاناتنا لفهم واستيعاب منجزات العصر والإنسان، دون شعور بدونية أو مركب نقص، وننخرط بعلم ووعي في مجريات الحياة المعاصرة.