مرور العابرين
عندما تمر بين صاباتها وزرانيقها وترى الكثير من بيوتها مغلقةً أبوابها الذي غير غبار الزمن لمعتها وتدنت جدرانها وأصبحت قاب قوسين أو أدنى إلى الانهيار، هكذا يبدوا لك وأنت تنظروا إلى البيوت التاريخية في المنطقة القديمة ”الديرة“ في جزيرة تاروت، بأن هناك رجالًا مروا ورحلوا بعد أن خلعت معطف الزمن وَطُوَت صفحتهم من الحياة.
مررت بالمنطقة القديمة ”الديرة“ شوقًا لديارهم ولكن رأيت صور البيوت وطينة جدرانها باهتة والأزقة فيها تخرج من أضلاعها قططاً تائهة كأنها تقول لمن ينظر إليها، أين الناس الذين كانوا هنا؟ أين من كانوا ينثروننا بأعطاف الحنان ويملؤن أفواهنا من بقايا الأسماك؟ صارت البيوت موحشة بعدهم يؤمها الفراغ وتعشعش فيها مختلف الطيور وينام على شرفاتها الحمام.
تهم بالعبور بين أزقة الديرة وتنظر إلى الأرض فترى بعض خطوات الأقدام لأناس مروا من هنا وهناك ثم رحلوا، ولم يعد لهم في تلك البيوت سوى رائحة الماضي، عندما نلملم شتاتنا ونذهب إلى الصابات والأزقة التي مررنا بها يومًا من الأيام وهي في أحلى حليها وجمالها، فتعيدك أحلامك اليوم لترى في المنام حكايات وذكريات الطفولة مع من كنا نحبهم ونعزهم لكنهم غابوا عنا وبقيت صورهم في ذاكرة المكان.
في إحدى جلساتي مع الأصدقاء استهواني سؤالًا لكي أسأل ذلك الرجل المسن الذي بجانبي عن فظاعات الزمن وما فعله بأناس مروا من هنا، وأكد لي بحسرة بالغة بأن هناك أسماء كانت خالدة في هذا المكان، لكن الموت جرجرها يرحمهم الله تعالى وبقية رائحة من الذكرى، أناس كانوا رواداً لتلك الجلسات التي لها من الصيت مالها، قبل أن يتحولوا إلى نسمة هوائية عابرة تختلط ذكرياتهم برائحة بيوتهم الجميلة بأقواسها وشرفاتها التي غيرتها تجاعيد الزمن.
وكما قال الشاعر:
مررت بدارهم شوقاً إليها
لعلي ألمح الأحباب فيها.
فما من نائم في الدار يصحوا
وما من زائراً يدنوا إليها.
سألت الجار: ما الأخبار قل لي؟
فقال: الدار أبقى من ذويها.
أما تعلم بأن الناس تمضي
وأن الدار تنعى ساكنيها.
الأيام والسنون تمر وتهاجر لكهف الذكريات، ولا يبقى سوى البعد والفراق مخلفة وراءها الحنين لتلك الأرواح والأمكنة التي عشقناها منذ زمن، ونتسائل الآن: أين أولئك الناس الذين كانت قلوبهم طاهرة وصافية كصفحة السماء؟ وتعرف ذلك عندما تمر على دار في ”الديرة“ قد هدها الزمن، تتعجب وأنت ترى البيوت الصغيرة في مساحتها كانت مجموعة من الناس تسكنها لكن صدور ساكنيها واسعة.
تستهويني الذاكرة في ذلك الزمان بأن سوق تاروت كانت منتشية بأهلها من الناس البسطاء المقتنعين بقليل من الرزق، لكن فيه الكثير من جمالية العطاء، كانوا أناس يتنفسون بأريج العمر الذي ينثرونه عطاءً وافراً رغم صعوبة الحياة في ذلك الزمان، إلا أنها لذة العيش والعمل رغم أن الكثير من الأهالي غادروا الجزيرة إلى كل ربوع الوطن.
وفي الختام كم تمنيت لو يعود بي الزمان إلى مرابع الطفولة والصبا، لتعود الذكريات في عين العودة وحمام تاروت الذي هدهم الإهمال وجور الزمن وأصبحت ذكرى من الماضي، ولكي أمر بين صابات ”الديرة“ فلربما أرى الذين بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا.