أبعاد الشخصية الإنسانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى
سنحاول في هذا العرض المختصر أن نتناول موضوعا ربما هو من أهم المواضيع المطروحة في علم النفس، ذلك هو موضوع «أبعاد الشخصية الإنسانية» مع ملاحظة أن الموضوع واسع ومتشعب جدا، لكننا سنسلط الضوء عليه بشيء من الاختصار.
تنبثق أهمية الحديث عن الشخصية وأبعادها، من أمرين مهمين جدا، هما على النحو التالي:
الأول: إن الإنسان اجتماعي بطبعه، ينفر من الوحدة والانعزال، ويهوى الحياة الاجتماعية، ويأنس بمعاشرة الآخرين، والاختلاط بهم، والتعامل معهم.
الثاني: الإنسان مستخدم بطبعه، بمعنى أنه يعجز عن تلبية كل احتياجاته بنفسه، مما يجعله مفتقرا ومحتاجا إلى الآخرين في كل شؤون حياته، مما يعني أن الإنسان مسخر لخدمة الإنسان.
وإلى هذا الفقر والاحتياج والاستخدام يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ»، بمعنى أنه تعالى جعل الناس مسخّرين في خدمة بعضهم البعض، ليسدّ كل فرد منهم نواقص الآخر، ويساعده في تلبية احتياجاته، فالكل مستخدم للكل، والكل محتاج إلى الكل في سدّ نواقصه، وتلبية حوائجه، ولا يمكن لأحد أن يستغني عن الآخر.
وفطرية الإنسان على الحياة الاجتماعية، وكذا حاجته لبني جنسه في تلبية احتياجاته، يحتمان عليه معرفة أبعاد شخصيات الآخرين، لعدة أسباب، منها:
1. إن ذلك يساعده على التنبؤ بردود أفعال الآخرين، مما يمكنه من فهم كيفية تعاملهم مع المواقف والأحداث.
2. يمكنه من التعامل الصحيح معهم حسب أبعاد شخصياتهم.
3. معرفة الأبعاد الإيجابية والسلبية لشخصيات الآخرين تمنحنا فرصة العمل على تطوير الإيجابيات، وعلاج السلبيات في شخصياتهم، مما يساهم في بناء الشخصية الإنسانية الكاملة.
هناك الكثير من التعريفات للشخصية الإنسانية، بعضها يحصر الشخصية في البدن وصفاته، وبعضها يقصرها في النفس وسماتها، وبعضها يشمل البدن والنفس معا.
وبناء على تلك التعريفات، يمكننا أن نخلص إلى أن شخصية الإنسان هي هويته الكاشفة عن صفاته البدنية، وسماته النفسية.
أما البعد، فهو مفهوم رياضي طبيعي، يعني «الامتداد» الذي يمكن قياسه، كالطول والعرض والارتفاع، ثم توسع استخدامه ليشمل أبعادا سيكولوجية، ومنها محاولة قياس أبعاد الشخصية الإنسانية، سواء عن طريق التجارب، أو الاستبيانات، أو المقابلات الشخصية، أو غيرها مما هو مطروح في علم النفس، ويعتمد عليه الأخصائيون النفسيون في محاولة معرفتهم لأبعاد شخصيات الآخرين.
أما السلوك الإنساني، فيعني النشاط الذي يمارسه الإنسان في استجابته للمواقف والأحداث، سواء كان سلوكا حركيا، أو لفظيا، أو سيكولوجيا، أو معرفيا، أو غير ذلك من أنواع السلوك، الذي هو سلوك غائي، يكف الإنسان عن مارسته متى تحققت الغاية التي يريد الوصول إليها من وراء قيامه بهذا السلوك أو ذاك.
فمثلا: الإنسان إنما يتوجه لطلب العلم لغاية حركته نحو ذلك هي طرد الجهل عن ذاته، وإنارة عقله بالعلم والمعرفة، ولولا هذه الغاية وإلا لما سعى نحو طلب العلم، كما أنه يندفع نحو الكد والعمل - رغم ما يسببه ذلك له من تعب - لغاية، هي أن يكون إنسانا منتجا وفاعلا في الحياة، وليؤمّن لنفسه احتياجاته بما يحصل عليه من مال مقابل عمله.
وكذلك الحال في كل عمل يقوم به الإنسان إنما هو لغاية معينة يسعى نحو تحقيقها، ولولا تلك الغاية وإلا لما اندفع نحو أي عمل أبدا وعلى الإطلاق.
وهذا هو المعبر عنه في الفلسفة وعلم الكلام «بالعلة الغائية» وفي علم النفس بأن «سلوك الكائن الحي سلوك غائي» أي أن الكائن الحي تكون لديه غاية معينة، تدفعه نحو فعل معين، فالغايات هي المثير والمحرك نحو الفعل، ولولاها وإلا لما أقدم الفاعل على فعله.
ولأن سلوك الكائن الحي سلوك غائي، تراه يكف عن ممارسة ذلك السلوك حين تتحقق تلك الغاية، كما هو الحال لدى الإنسان والحيوان في أكل الطعام حين تنفعل لديهما غريزة الجوع، أو ممارسة العملية الجنسية حين تنفعل لديهما غريزة الجنس، فإنهما يكفان عن الأكل أو عن العملية الجنسية حين يتم إشباع تلك الغرائز المنفعلة لديهما، إذ أنهما حققا الغاية التي يريدانها من وراء فعلهما هذا.
وهناك رابطة وثيقة جدا بين سمات الشخصية والسلوك الإنساني، كما أن المؤثرات في السلوك والمحفزة له ليست خارجية فقط، بل هي داخلية أيضا، فكل إنسان سيمارس هذا السلوك أو ذاك تجاه مختلف المواقف والأحداث حسب طبيعته وأبعاد شخصيته، مما يؤكد لنا أهمية معرفة هذه الأبعاد، كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل.
تنقسم طبائع الأشياء إلى قسمين:
أ - طباع ذاتية.
ب - طباع مكتسبة.
والطباع أو الصفات الذاتية، هي التي تكون متأصلة في ذات الشيء، فلا يمكن أن تنفك عنه بأي حال من الأحوال، فهو بذاته مطبوع على تلك الطبيعة، متصف بتلك الصفة المتحدة معه اتحادا كاملا، مما يعني استحالة التفكيك بينه وبينها.
أما الطباع أو الصفات المكتسبة، فهي التي ليست من طبع تلك الذات، ولا من صفاتها، وإنما اكتسبتها الذات اكتسابا من غيرها، أو بفعل خارجي نفعله بها.
ولو أخذنا الإنسان مثلا، لرأيناه يجمع هاتين الطبيعتين معا، فهناك أشياء هو مفطور ومطبوع عليها، وفي مقابل هذه الأشياء هناك أشياء أخرى ليست من طبيعته الذاتية، وإنما يكتسبها من أسرته ومجتمعه، والمحيط الخارجي الذي يحيط به، إلى أن يتعود عليها، فتكون أشياء طبيعية ثانوية بالنسبة إليه.
ومن الأشياء التي هي من طبيعة الإنسان الذاتية، تلك الأمور التي فطره الله عليها، أو جعلها غريزة من غرائزه، كحب الذات، وعشق الجمال، والرغبة في تكوين الأسرة، وإنجاب البنين... فكل هذه الأمور منها مما فطر عليه الإنسان، ومنها ما هو من غرائزه، وهو مطبوع عليها، يحبها ويعشقها ويميل إليها بطبعه وفطرته وغريزته.
وفي المقابل هناك أمور أخرى، ليست من الطبيعة الإنسانية، ولا هي من الفطرة ولا الغريزة، وإنما يعود البعض من الناس أنفسهم عليها، فيتعلقون بها تعلقا كبيرا، وشبيها بتعلقهم الفطري بما فطرهم الله عليه، أو جعله من غرائزهم الأصيلة، كما هو الحال في من يعود نفسه على التدخين، أو إدمان المخدرات، أو الإكثار من شرب الشاي، أو النوم على نوع خاص من الموسيقى، أو في ما يتعلق بطريقة المأكل والملبس وما يوجد بينها من اختلاف بين الأمم والشعوب، فذاك المجتمع يأكل بيده، وهذا المجتمع يأكل بالشوكة، وذاك المجتمع يلبس الثوب والشماغ، وهذا المجتمع يلبس البنطلون والقميص... أو أي عادة أخرى هي ليست أصيلة، وإنما عادة مكتسبة من الأسرة، أو الأصدقاء، أو المجتمع، أو غيرهم.
وبناء على ما قدمناه، نصل إلى نتيجة، وهي أن أبعاد الشخصية الإنسانية تنقسم إلى قسمين، هما كما يلي:
الأول: أبعاد خاصة:
وتتمثل في سمات الشخصية البدنية والنفسية، بما تحويه من اختلاف كلي أو جزئي عن الشخصيات الأخرى، كالشخصيات الدموية والصفراوية والسوداوية والانطوائية والانبساطية والانفعالية والعاطفية...
ولكل سمة من هذه السمات دورها في تكوين الشخصية، وأثرها في السلوك الإنساني.
الثاني: أبعاد عامة:
وتتمثل في السمات المشتركة بين الناس جميعهم، «سواء كان فطريا أم غريزيا» كعشق الجمال، وحب العلم، والميل إلى الأخلاق الكريمة، وفطرية التدين.
الحديث عن الأبعاد الخاصة للشخصية الإنسانية حديث قديم جدا، بل هو ضارب بجذوره إلى الآماد البعيدة في التاريخ، ويعود إلى عصر ما قبل التاريخ، حيث العصر الإغريقي.
ولعل نظرية «أنماط الشخصية» للطبيب الإغريقي «أبقراط» الذي كان في القرن الخامس قبل الميلاد، حول «أبعاد الشخصية» إن لم تكن أقدم النظريات، فهي من أقدمها في تناول الأبعاد الشخصية النمطية.
ومن ذلك التاريخ وإلى عصرنا الحاضر وما زال الحديث عن الشخصية وأبعادها محل اهتمام الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس، مما يدلل على أهمية هذا الموضوع، كما أن ذلك ساهم إلى حد كبير جدا في تطويره عبر التراكم الزمني والمعرفي.
وأما عوامل تكوين أبعاد الشخصية الخاصة فمتنوعة وكثيرة، منها العامل الوراثي، بما له من أثر كبير في صنع أبعاد الشخصية على مستوى الصفات البدنية والنفسية على السواء، كما ورد ذلك في بعض النصوص الدينية، وأكدته البحوث العلمية.
بل بعض الصفات الناتجة عن العوامل الوراثية غير قابلة للتغير، ولا يمكن التخلص منها حتى عن طريق العلاج، كما هو الحال مثلا في الحمق والجنون.
ومع العامل الوراثي هناك عوامل أخرى كثيرة لها دورها في صنع أبعاد شخصية الإنسان، كالأسرة والمحيط، والعوامل الاجتماعية والمعتقدات الدينية، والهيئات التعليمية... إلى غير ذلك من العوامل المؤثرة في صنع الإنسان، وبناء أبعاد شخصيته.
أما خصائص أبعاد الشخصية الخاصة، فهي:
1. طارئة وغير أصيلة.
بمعنى أنها ليست من طبع الإنسان، ولا من صفاته الذاتية، وإنما اكتسبها من خلال التربية، أو المجتمع، أو العادات والتقاليد...
2. غير متصفة بالعموم والشمولية.
بمعنى أنه ليس كل الناس يتصفون بها، وإنما هي موجودة عند أناس دون آخرين.
3. الكثير منها يمكن تطويره إن كان بعدا إيجابيا، أو علاجه والتخلص منه، إن كان بعدا سلبيا.
في مقابل الأبعاد الخاصة للشخصية الإنسانية التي تميز هذه الشخصية عن تلك، هناك أبعاد عامة ومشتركة بين جميع البشر، وهي تتمثل في أربعة أبعاد متعلقة بالجانب الفطري لدى الإنسان، على النحو التالي:
1. الجمال في الفن.
2. الخير في الأخلاق.
3. الحق في العلم.
4. البعد الروحي «الديني»
تمتاز الأبعاد العامة المشتركة بين جميع الناس على الأبعاد الخاصة بعدة أمور، منها:
1. هي أبعاد أصيلة وفطرية.
بمعنى أن الناس جميعهم مفطورون عليها، وهي من طبيعتهم الإنسانية.
2. عامة وشاملة.
فهي موجودة عند الناس جميعهم من دون استثناء.
3. غير قابلة للزوال، ولا يمكن القضاء عليها، مهما كانت المحاربة لها.
ولهذه الأبعاد المهمة أثرها الكبير ودورها الفاعل في تطور الحضارة الإنسانية على جميع الأصعدة والمستويات.
فبعد الجمال في الفن، هو الذي دفع الإنسان إلى الاهتمام بكل أنواع الفن والجمال في الحياة، مما ساهم في رقيه، وتطور نظام حياته في كل النواحي الطبيعية.
فاهتمام الإنسان بشخصيته وهندامه ومظهره الخارجي، وعنايته بالحدائق والمناظر الطبيعية، واهتمامه بالهندسة المعمارية، وتشجيعه وممارسته لكل الفنون، من الرسم والنحت والخط... كل ذلك وغيره هو نتاج فطريته على عشق الجمال والكمال، مما ساهم في تطور الحضارة المدنية والعمرانية والفنية... للإنسان، عكس البهائم والحيوانات التي لم يتطور نظام حياتها الطبيعي في أي شيء، كونها فاقدة لهذا البعد المهم جدا.
وأما عن البعد الأخلاقي، فنحن نعلم أن للصفات والأفعال الأخلاقية قيمها الذاتية، التي تمكننا من الحكم عليها بالحسن والقبح من منطلق عقلي وقيمي أخلاقي بعيدا عن الدين وأحكامه، وأن الإنسان بفطرته يحب الحسن من القيم الأخلاقية كما ينفر من قبيحها، بدليل أن كل الناس - بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، ومناطقهم الجغرافية، ومستوياتهم العلمية، وتوجهاتهم الفكرية - يحبون الصدق والوفاء والأمانة... كما يكرهون وينفرون من الكذب والخيانة... ويصل حبهم للحسن وكراهيتهم للقبيح من الصفات الأخلاقية إلى حد أن كل فرد من الناس يدعي أنه متصف بكل صفة أخلاقية حسنة، كما أنه ينزه نفسه عن كل صفة قبيحة، حتى ولو كان يعلم في نفسه أنه متصف بها.
والبعد الأخلاقي في الشخصية الإنسانية هو الذي أثرى الحضارة الأخلاقية للحياة الإنسانية، كما أنه السبب الرئيس وراء محاولة تحلي الإنسان بالفضيلة، والتخلي من الرذيلة.
وأما عن بعد الحق في العلم، فلا شك أن الإنسان مفطور على حب العلم، والحرص على معرفة الحقائق في الأشياء، وقد أثبت علم النفس وجود غريزة التعلم لدى الإنسان منذ صغره ونعومة أظفاره، بل حتى وهو في مهده، وما تطلع الأطفال في الأشياء، ومص أصابعهم، وتفكيكهم للعب والدمى... إلا محاولات استكشافية للأشياء، ومحاولة جادة في التعرف على حقائقها، كما أن ما يرشقون به آباءهم وأمهاتهم ومن يحيطون بهم من أسئلة متنوعة عن الأشياء ومكونتها وأسبابها... كلها تدل على فطرية الإنسان على هذا البعد في حب العلم وعشقه.
وهذا البعد العظيم، هو الذي أثرى الحضارة العلمية للإنسان، ومكنه من غزو الفضاء، والغوص في أعماق البحار، والنزول إلى تخوم الأرض، واكتشاف كل ما اكتشفه وما سيكتشفه في كل الحقول والميادين العلمية.
وأما في البعد الديني، والمعبر عن بالبعد الرابع للروح الإنسانية، فلعل أول من أشار إليه «بمعنى أنه سماه بهذه التسمية» هو الفيلسوف الألماني «رودلف آت» عام 1920م.
وفي شهر أكتوبر من عام 1958 ميلادية، نشرت مجلة فرنسية مقالا بعنوان «البعد الرابع للروح الإنسانية» أكدت فيه وجود البعد الديني إلى جانب تلك الأبعاد الثلاثة في الشخصية الإنسانية، وهي بعد الجمال في الفن، والخير في الأخلاق، والحق في العلم.
ووجود البعد الديني في الشخصية الإنسانية مما لا مجال للتشكيك فيه فضلا عن محاولة إنكاره، وذلك لوجود الشواهد الكثيرة الوفيرة المتنوعة على صحة وأصالة القول بوجوده، وتغلغله في أعماق النفس الإنسانية، والتي من بينها النزوع الفطري لدى الإنسان بالخضوع أمام قوة عليا، كما أن الشواهد التاريخية وما يؤكد الباحثون في الحضارات الإنسانية، كلها تؤكد على أن الشعوب جميعها وبدون استثناء وفي كل مراحل التاريخ مصبوغة بالصبغة الدينية، وأن الحفريات دلت على وجود المعابد من كنائس وأديرة ومساجد... في كل العصور، على مر الدهور، وتعاقب الأزمنة، وتوالي الأجيال، مما يثبت عدم خلو أي حقبة زمنية من الدين والإيمان.
نعم، قد تختلف الطريقة المتبعة، والسلوك العملي في إشباع هذا البعد، كما هو الحال في سائر الأبعاد الأخرى، كما أنه من الممكن أن تقوى أو تضعف هذه الأبعاد الفطرية العامة لدى الإنسان، وذلك وفق التوازن وعدمه في تعامله معها، وكذا وفق ما تواجهه هذه الأبعاد من حث عليها، ودعوة إليها، أو محاربة مضادة لها، مما يساهم في ظهورها بقوة تارة، وخفوتها تارة أخرى، ولكنها لا تموت ولا يمكن القضاء عليها أبدا.