آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

قصة قصيرة

كلّ الفُصولِ شتاءٌ

عبد الباري الدخيل *

عندما توفيت جارتنا أم حسن، كانت مصيبة أخي «علي» مضاعفة، فقد فتحتْ غيمة الذكريات عليه نوافذها، وهطلت صور الماضي من كل جانب.

كانت أم حسن وأمي تعيشان كأختين، لذا أناديها «خالة»، أما «حنان» ابنتها فهي صديقتي، وحبيبة أخي، لكنها في ليلة خسوف اختارت أن ترحل مع رجل آخر، فأقفل أخي قلبه وانزوى في كهفه.

اليوم قابلته عندما عدت من العزاء، سألني عن حنان: هل عادت؟

حاولت الاشتغال عن النظر في عينيه، وهززت رأسي بالإيجاب، فمدّ ورقة وقال: سلميها رسالتي، وإن لم يسعفك الحظ فمزقيها.. وصمتَ قليلاً، حتى رفعتُ رأسي ونظرتُ إليه.

وجدته حزيناً كطفل سُرقتْ عيديته، قال: هل تغيرت؟

قلتُ: قليلاً.

تنهد وقبّل الرسالة وأعطاني إياها.

تذكرت اعتراف «حنّون» لي بحبها لأخي، ومفاجأته عندما ناولته سماعة الهاتف، قائلة: علاوي.. حنّون تبغيك.

حينها فغر فاه، وتلفّتَ وكأنه سارقٌ سمع صوت شرطي، قلت له: إنها صديقتي ولا تخفي عني أي شيء.

لكنها أخفت عني سبب قرارها القاتل، كيف استطاعت دفن حبها، والزواج برجل آخر؟

فتحت الرسالة، فوجدته قد عنونها ب: «موسم الموت»: أعلم أنكِ في مكان قريب.. وأعلم أن شظايا من ذكريات أصابت قلبك عندما مررت أمام بيتنا، كما أعلم أنك لا تريدين سماع كلماتي.. فهي عسل يخالطه مرّ.. لكنّ الواجب يحتّم عليَّ أن أعزيكِ في أمكِ.

كان نبأ وفاتها خنجر اخترق صدري

وأهاج عاصفة من الحزن في بيتنا.. ذكرّنا بأمي وموتها.. كانتا كأختين..

أتذكر جلستهما وحديثها الهادئ.. صوتها هامس، حنون، رقيق، يشبه هدهدة أم على طفلها لينام..

كانت تأتي لتترافقا «للعزية» في بيت من بيوت الجيران كل ضحى، ثم تعودان وتأخذان في مناقشة أمر الغداء؛ ”أني طلعت لحم اليوم أفّادي في صالونه“ ترد عليها أمي ”لو أدري أفّادش فيها أمس غدانا صالونه، چان شلت لش“، فتجيبها: ”أمس سويت للبنات ربيان“، فتستأذنها أمي ”ذكرتيني باقوم أطلع ربيان باسوي حمصة“.. وهكذا هي ضحواتهم.. واليوم لا صبح ولا ضحى.

انكسرتُ مرتين.. عندما فقدتكِ بعد أمي، واليوم أفقد أمي مرتين.. حزنكِ لا يماثله حزن.. وألم فقد الأم لا يماثله ألم.

وددت أن أضم رأسك إلى صدري وأعزيكِ..

أمكِ أمي..

والفراغ الذي أحدثه فقدها أصابني برصاصاته قبل هذا اليوم.. اغتيال الدموع أو حبسها عذاب وطغيان.. ولن تنقذ روح صدأة من الهم إلا بالبكاء.. لم أبكِ منذ أن فقدتكما.. واليوم أبكي لفقد أمي وأمك، وأبكيكِ

أيتها الحبيسة في الذاكرة.

لستُ خائفاً على بقايا الحنين..

إنا لله وإنا إليه راجعون

عظم الله لك الأجر وأحسن لك العزاء وربط على قلبينا بالصبر.

في الحسينية التي أقيمت فيها فاتحة «أم حسن» كانت النساء يأتين للعزاء ويذهبن، وبقيتُ حتى فرغ المكان، لكنّ حالة «حنان» لم تساعدني أن أعطيها الرسالة.. وفي اليوم التالي كنت أجلس عند الباب فمرت ووقفت لتشكرني على وقوفي إلى جانبها، فسلمتها الرسالة، فنظرت لي مبتسمة: إنها رسالة علي.. صح؟

قلت: نعم

قالت: شكراً، وهي تمزق الرسالة..

وأمسكت بيدي وهي تقول: لقد تخلى عني علي يوم قال: ”الزواج مقبرة الحب“.

نظرتْ في عينيّ مباشرةً، فرأيتُ شلال حزنٍ متدفق، وغيمة ألمٍ تكاد أن تمطر.. وهمست: ”الحب كالصلاة يبطل دون طهارة“.