دور الدولة في نظرية السوق
لا شك أن الحكومة باعتبارها المؤسسة العليا في المجتمع يكون لها الدور والتأثير في انتظام الحياة الاقتصادية للمجتمع.. فالأصل في المذهب الاقتصادي الإسلامي، هو أن للأفراد الحرية في ممارسة حياتهم الاقتصادية، ورعاية مصالحهم الخاصة بالطرق التي يروها مناسبة ما دام ذلك لا يتعارض مع المصلحة العامة «مصلحة المجتمع والدولة».. فالدولة لا يمكنها أن تكون بديلا عن الأفراد في حركتهم ونشاطهم الاقتصادي المتوجه إلى إشباع حاجاتهم، لذلك فإن دور الدولة الأول يتمثل في تحقيق التوازن والتعادل بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة..
إضافة إلى أن عناصر الاقتصاد المختلفة من إنتاج واستهلاك وتوزيع وما أشبه، بحاجة إلى إطار إداري، وجهاز تنفيذي يقوم بمهمة التنسيق بين هذه العناصر المختلفة، وذلك الإطار والجهاز هو الدولة الذي تقوم بهذه المهمة..
إذ أن الاقتصاد في المفهوم الإسلامي ليس لإشباع حاجات الناس فقط، وإنما هو يسعى نحو تحقيق جملة من الأهداف والغايات في المجتمع الإسلامي.. والدولة هي التي تمارس دور التنسيق بين مختلف الجهود لتحقيق أهداف الاقتصاد الأخرى في المجتمع الإسلامي..
والتشريع الاقتصادي الإسلامي، بنص على أن للدولة حق التملك والملكية.. إذ هناك بعض الموارد التي حددها الفقه الإسلامي تتصرف فيها الدولة على شؤون المجتمع المسلم.. بما فيه تحقيق مصلحتهم العامة أو إنفاقها واستثمارها في مشاريع إنتاجية تعود بالفائدة على المجتمع الإسلامي برمته..
ومهمة الدولة احترام الملكية الفردية، التي أقرتها الشريعة الإسلامية، وقد تتدخل الدولة في المجال الاقتصادي استثناءا لحماية أهداف اجتماعية ولتحقيق مصلحة عامة..
فالدولة تتدخل حينما يحدث الخلل بين المصالح الخاصة والعامة، ومقدار التدخل هو إرجاع الأمور إلى حالتها الطبيعية القائمة على مبدأ التوازن..
وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي يتم للاعتبارات التالية:
1 - مراقبة سلامة المعاملات وشرعية النظام الاقتصادي المعمول به..
2 - زيادة فعالية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتدخل الدولة في هذه الأمور لا يعد مصادرة لحرية الأفراد وحقهم في القيام بمختلف أوجه النشاط الاقتصادي المشروع، وإنما هو للتكامل والتعاون من أجل الصالح العام..
وحق الدولة في التدخل في هذه الأمور ليس مطلقا، وإنما هو مقيدا أيضا بالصالح العام.. ويقول السيد محمد باقر الصدر في بيان السند التشريعي لمبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي هو قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾ «سورة النساء، آية 59».. وأنه لا خلاف بين المسلمين أن أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم.. وأن لهذه السلطة حق التدخل لحماية المجتمع، وتحقيق التوازن الإسلامي فيه.. أما عن حدود هذا التدخل فيرى أنه مقيد بدائرة الشريعة المقدسة، فلا يجوز للدولة أو أولي الأمر، أن يحلل الربا أو يجيز الغش أو بيع الخمر.. أما بالنسبة للتصرفات والأعمال المباحة في الشريعة كأحياء الأرض واستخراج المعادن والأتجار فإن لولي الأمر أن يتدخل في منع القيام بشيء من ذلك أو يأمر به وفقا للمثل الإسلامية للمجتمع» «اقتصادنا، ص 263»..
ويمكننا أن نحدد دور الدولة في السوق في النقاط التالية:
1 - المشاركة في الإنتاج: باعتبار أن الدولة لها ملكية في النظام الاقتصادي الإسلامي، وتشارك في عملية الإدارة والسيطرة على مجموعة من القطاعات والجوانب في العملية الاقتصادية.. لذلك فإن للدولة دورا في عملية الإنتاج، فالأراضي والثروات المختلفة التي تملكها الدولة ينبغي أن تستثمر حتى تدخل في الدورة الإنتاجية للمجتمع..
لهذا نجد هناك توجيهات إسلامية عديدة، لأن تقوم الدولة بالعمارة والمشاركة في التنمية الاقتصادية، فقد طلب علي ابن أبي طالب من واليه على مصر «مالك الأشتر النخعي» أن يوجه اهتمامه بالقطاعات الإنتاجية وبإصلاح أراضي الخراج، كل هذا من أجل أن تشارك الدولة ومرافقها المختلفة في عملية الإنتاج والتنمية.. حيث قال «لأن إصلاح أمر الخراج إصلاح لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس عيال على الخراج وأهله»..
فإصلاح القطاع الزراعي من أجل زيادة إنتاجه يشكل قاعدة ضرورية لتمكن المجتمع الإسلامي وقوته وعزته..
ولذلك «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا» كما طلب الخليفة من واليه أن يهتم بالصناعة والتجارة لما لها من دور في سد حاجات المجتمع وتطوير اقتصاده.. فقال «استوص بالتجار وأوص بهم خيرا.. فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح» ويتبين مما سبق «أن تأمين رأس المال الاجتماعي من تربية وتعليم وصحة عامة ليس موضع نقاش في مهام الدولة، فالإنفاق على التعليم مطلب ضروري وقد قال صلى الله عليه وسلم «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع».. والتعليم الذي تبذل فيه الدولة لا يكون مجرد محو الأمية، بل تكوين الإنسان المسلم الصالح الذي جاء وصفه في القرآن والسنة، وتعميم التغير الاجتماعي في البيئة الإسلامية، وتدريب المواطنين على مختلف المهارات وتحفيز البحث العلمي والتدريب على التقنيات الحديثة في الإنتاج للإسراع بالنمو الاقتصادي» «السوق وتنظيماته في الاقتصاد الإسلامي، ص135».. وجماع القول في هذه النقطة، أن الدولة تقوم بعملية المشاركة في الإنتاج، وتزيل الكثير من العقبات التي تحول دون تطوير الواقع الاقتصادي للمجتمع المسلم..
2 - توزيع الثروة: بما أن الدولة تباشر عملية الإنتاج، وتملك الكثير من الثروات، لذلك فإن أحد الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها هو عملية توزيع الثروة بشكل عادل.. ولتوزيع الثروة معنيان هنا:
- أن تقوم الدولة بتوزيع الثروة والميزانية على قطاعات الإنتاج، بحيث أن تسهم جميع القطاعات في تطوير المجتمع..
- إعطاء المعونات وتحسين دخل الأفراد بشكل مستمر.. وتحويل جزء من القوة الشرائية إلى المواطنين، وبهذا تحقق الدولة التوازن العادل، وتصحيح النتائج المترتبة على نظام السوق..
3 - مراقبة الحركة الاقتصادية لضمان سيرها بما يناسب والشريعة الإسلامية..
وبهذا تتفاعل جميع القوى الموضوعية في السوق بما يحقق المصلحة والمنفعة والفائدة إلى المنتج والمستهلك في آن واحد.. ولهذا أبدع الإسلام نظرية «سعر المثل» إذ أن ارتفاع سعر السلعة، من جراء تفاعل عوامل العرض والطلب هو ارتفاع عادل ولا ضير فيه وكما يقول الحديث «أن يكون بأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع».. ف «الإسلام يجيز الأخذ بالقانون الاقتصادي في العرض والطلب كمعيار سليم في تقدير السوق للسلعة، ولكن على شرط أن يسري هذا القانون سريانا طبيعيا» «محاضرات في النظم الإسلامية، د محمد عبد الله العربي، ص322»..
وبطبيعة الحال فإن الحرية الاقتصادية للسوق تؤدي إلى حسن توزيع السلع والخدمات على المستهلكين.. باعتبار أن القاعدة العامة التي تنطلق منها النظرية الاقتصادية الإسلامية هو أن تكون الثروات موزعة توزيعا عادلا..