طهارة الروح
جمعتنا الحياة أول مرة في مقاعد المدرسة الخشبية، وافترقت طرقنا من بعد ذلك، ويفرض القدر نفسه؛ ليجمعنا مرة أخرى بعد سنوات. هذه المرة كنتُ أنتظره في مقاعد فاخرة في مطعم وسط المدينة حيث مكان لقائنا.
التقينا بود كما يلتقي الغائبون، وقبل أن يجلس استأذنني في تغيير موقع طاولتنا، حقيقة الأمر انتابني شيء من الغرابة لطلبه هذا، أخفيتها بداخلي بابتسامةً مصطنعة، واقترح الجلوس على طاولة بالقسم الآخر من المطعم.
مرت دقائق ونحن نتحدث، تخللتها ضحكات استرجاع ذكريات طفولتنا، فجأة قال لي: على ملامح وجهك سؤال عائم، جوابه يا صديقي عبد الله، أنني لا أضع قدمي بمكان قبل أن انتبه جيدًا لمن حولي، كان بجوارك شابًا يتناول طعامه وحيدًا، تعلوه هالة من اليأس والألم، ولم أرغب للقائنا هذا، وصوت ضحكاتنا أن تزيد من مشاعر وحدته، فطلبت تغيير المكان؛ لنرتاح بحديثنا أكثر.
رحت أختلس النظر مسرعًا لمحيط طاولتنا الأولى، تعلقت عيناي على ذلك الشاب، كان كما وصفه صديقي محمد فعلاً، قطع نظراتي هذه النادل الذي جاء لأخذ طلبيتنا، سبقني محمد بطلبه، وسرحت باندهاش صامت، وهو يطلب من النادل إيصال طبقين من الكعك لطاولة بالقرب منا، وإخبارهم أنها مقدمة مجانًا من المطعم، لمنع السؤال والإحراج عنهم.
رمى بعينه نحوي وقال لم تأكل الأم بتلك الطاولة إلا فتات طعام أبنائها، إنها تمارس أمومتها، مازال أولادها جياعا وأعينهم بأطباق من حولهم، كان صوتها منخفض بخجل، وهي تعدهم بطلب الكعك بالمرة المقبلة. أعرف هذا النوع من الخجل إنه خجل الافتقار للمال.
صرت أشعر بالخجل من نفسي كيف لم انتبه لهذا، كان رأسي مثقلا بأفكاره وعدم قدرته على تقييم هذه الأمور، لا أدري ماذا أقول لك يا محمد، كل ما أستطيع قوله أنك تصنع بداخلي تغييرًا كبيرًا وأثرًا لا يمكن نسيانه. «علمني كيف أشعر بهذا العمق للأمور مثلك.»
ابتسم وكان يبدو أنه يفكر بشي ما، كأنه يتذكر لحظه أخرى من الزمن، ثم قال علمتني أمي أنه يجب أن يتسع قلبي لمن حولي ويكون فيه متسع دائما للخير، كانت كلما تطبخ اللحم ترسلني بطبق منه لجارتنا، كانت تخشى أن تصل رائحة اللحم لهم ويستشعرون الرغبة له. لم تعلمني هذا بكلمات عاثرة من لسانها بل بمواقف جعلتني شريكا أساسيا بها؛ حتى تتأصل الفكرة بداخل ذاتي. كانت أمي مدرستي العظيمة في «تهذيب نفسي».
لن تتغير حياتنا إذا لم ننظر لمن حولنا، لدينا خمس حواس يجب أن ندربها بشكل جيد لتقربنا لطبيعتنا البشرية؛عندها ستمنحنا حاسة سادسة وهي شفافية أرواحنا.
كان هذا آخر لقاء جمعنا، لقد رحل محمد إلى ربه؛ ولكن كلماته بقيت عالقة بداخلي، بل جعلتني أتعمق أكثر في نفسي؛ لأتمكن من تربيتها. كثير منا عندما تمر بمسمعه عبارة «تهذيب النفس» يستشعر أنه دور يحتاج لمستوى عالٍ من التدين، أو التشيع، ويستثقل تلك العبارة ويستصعبها.
في واقع الأمر هذه أوهام أفكارنا، كل ما نحتاجه أن نراقب أنفسنا، نبحث عن السيء من معتقداتنا، ونمتحن أنفسنا بها، لنكن دائما بدور التلميذ الذي يسعى للمعرفة والتعليم؛ لأن دور المعلم يوهم النفس بالكمال، يجعلها تقف حيث وصلت دون حراك.
أن نخلق لأنفسنا مراقبة ذاتية منا تتحكم بشهواتنا ورغباتنا وميولنا وصفاتنا، ذاك أمر ليس بالسهولة في بدايته؛ لكنه يميل للاعتياد كلما مارسته وتحديت نفسك به. هذا الحال كالألم الذي يسيطر على عضلات أجسامنا بداية التمارين الرياضية، ثم يختفي تدريجيا بالتكرار والممارسة.
أعلم أنه يتبادر بأذهانكم سؤال «من أين أبدا؟»
أبدأ من تعلم أن تحب نفسك أولا قبل أن تحب من حولك؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، اعتبر ذاتك الداخلية كقطعة خشب سادة، نتشابه جميعا في امتلاكها، لكن هناك من يقوم بإزالة الزوائد عنها، ينحتها، ويصقلها، ويجعل منها قطعة فنية مميزة غاية في الجمال.
هكذا هو تهذيب النفس، عندما تراقب نفسك، وتسعى لتغييرها للأفضل؛ فأنت تصنع من نفسك صورة جميلة مميزة، لها قيمة ومعنى، وهنا تستطيع أن تستخرج أفضل ما عندك، ستستشعر الصح والخطأ، وستقدم حبا صادقا منبعه خير مزروع أساسًا بداخلك.
دائما فكر أن تنتصر على نفسك، وليس على من حولك، عندها تكون الرابح الأكبر؛ لأنك إن لم تهذب ذاتك، ستبقى حبيس أفكار ومبادئ من حولك، يتحكمون بك كيفما يشاؤون.
هناك من يقرأ مائة كتاب بالسنة، ولا يغير هذا العلم مقدار شعرة من ذاته، لأن أساس دافعيته حب الظهور والرفعة أمام الآخرين، لا تطوير نفسه وتطهيرها.
نولد صغارا، يجتهد والدينا بتغذيتنا؛ لينمو العقل والبدن؛ ولكن قلة منا من ينتبه لتغذية نفسه، فهي تنمو كما ينمو البدن، فنغدو كبارا بأنفس صغيرة، للأسف أغلب الناس يجهلون هذا الأمر.
فبدل أن نعلم أبنائنا أن العين بالعين، والسن بالسن، والبادي أظلم، كان الأصح أن نعلمهم التسامح؛ لأن التسامح أقوى رد لمن آذانا، ولنا بسيرة الرسول ﷺ قصص كثيرة بتعامله مع من عاداه.
وبدل أن نوصي أولادنا تكرارًا أن ينتبهوا لحقيبة الطعام في المدرسة عن السرقة؛ كان أجمل لو أعطيناهم طعامًا أكثر وطلبنا منهم مشاركته مع من يحبون. نحن نهذب أنانيتهم بالعطاء.
وبدل أن نشتري لكل طفل لعبته الخاصة؛ لمنع الشجارات بين الأخوة، كان الأفضل شراء لعبة واحدة يتشارك بها الجميع، سيكون الوضع متعبًا بالبداية؛ لكنك قدمت لهم درسًا أن تتعلم النفس الإيثار والتنازل عما تحب لمن حولها، بتهذيب حب التملك بالتعاون.
مازال الطريق مفتوحا لنا كبارا وصغارا؛ لتطهير أنفسنا من المعتقدات التي نعتقد أنها الصواب، لا يهم حجم التغيير الذي سيحدث بداخلك، الأهم هو حجم الرضا لديك. فمن خلاله ستشعر بسعادة لا توصف، وهي سعادة أن تعيش كما يريدك الله.
قال أمير المؤمنين «أفضل العبادة غلبة العادة»
القتال في ميادين الحروب هو جهاد أصغر، وكان لمقاومة الشهوات والتحكم بها مقام الجهاد الأكبر عند الله. وكم من العظمة ستحصد من الرحمن لك بهذا الجهاد؟
نحن نخوض هذا الجهاد سنويًا في شهر رمضان، نجاهد أنفسنا؛ لمنعها من الوقوع بالمحرمات. نحتاج فقط أن نجعل كل حياتنا بنفس هذا الجهاد طوال السنة وليس لشهر واحد.
أرى كثيرا من الناس لديه من الإرادة في الإقلاع عن تناول السكريات لسنوات؛ حرصا على صحته وآخرين يهتمون بالدراسة المستمرة؛ لنيل شهادة بعد أخرى؛ لرقي عقولهم، لكن قلة من يجعل من الإرادة بابا لتهذيب الذات؛ رغم أنها هي باب رضا الله والجنة. أغلبنا يجمل الخارج وينسى الداخل.
بدأت أنزعج كثيرًا خاصة من تلك الأنانية في حب الذات، في أدوار حياتنا الأسرية، والمهنية، وحتى التطوعية. أتعلمون من هو أرقاهم تهذيبا لنفسه؟ ذاك الذي يقوم بدوره في أسرته، رغم عدم تقدير من حوله له، وذلك المجتهد في عمله، رغم أنه يعلم أن لا زيادة ولا ترقية بالمقابل له، وذاك الذي يتطوع بقلبه، ويستمتع بذلك، رغم علمه باستغلال طيبته، ونسبة جهوده لأناس غيره، هو الذي لم يغضب، ولم ينفعل، لم يهتم لتلك الأمور، كان ممتنا لله على تكريمه بهذا التطوع، سعيدا أنه حصل على هذه الفرصة.
نعم، هم الرابحون الحقيقيون، فهم يعلمون أن الله يرى ما بداخلهم، يستشعر نور الإنسانية التي يدعوهم لها؛ لأنهم هذبوا أنفسهم بقناعة أن الأعمال تقاس بالنيات الحقيقية بداخلهم. هذا مقياس العدل الرباني السليم المقوم لمجتمعنا.
إن فرص التغيير في حياتنا لا تأتي صدفة، أو مبنية على حظ، إنها متمثلة بإرادتك؛ فامتحن نفسك بنفسك، واصنع الفرص لها كما كان يفعل صاحبي محمد.
لا تكن بالدنيا مجرد رقم يضاف للبشرية، بل كن ذا قيمة بفكرك، أو فضيلتك. هذا ما سيجعلك تترك بصمة تعرف بها عن نفسك في هذه الحياة.
يمتلأ العالم بأشخاص مشغولين بالسعي وراء المناصب، والدرجات، جعلوا الألقاب قبلتهم، هم حقيقة عبيد نظرات من حولهم؛ لكن من الندرة أن ترى من يشق نفسه عاليًا نحو ذاته، لتكن أنت منهم، ولتري الجميع جمال لوحتك الداخلية التي رسمتها بيديك.