الاشتياق بين سندان الذاكرة ومطرقة الأيام
هنا لعبت... وهنا ضحكت بصوت هز المكان حينما قفزت كرتنا على سطح بيت الجيران
وهنا بكيت لأن أخي لم يأخذني معه لشراء الحلوى
أحمد وسعيد وفؤاد.. أصدقائي منذ أن تفتحت أعيننا على الحياة
نور وفاطمة وإسراء صديقات أختي منذ أن ربطت لهن أول خصلة شعر للذهاب إلى المدرسة
سيارة أبي ”الكابرس“، ولون جدار منزلنا الأزرق، ومزهرية البيت ”متحف التصوير الوثائقي لدى العائلة“
جمل وصور عبقة عالقة في الذاكرة تتزاحم مع مرور الأيام وتتكدس مع مرور الوقت لتصبح بعيدة حاضرة وقريبة مستحيلة المنال.
العصرنة والتقدم السريع المخيف الذي نعيشه لم يسمح لنا حتى بالتفكير في تلك الصور واستحضارها من أقصى زاوية في عالمنا اللاواقعي إلى عالمنا الواقعي ولو من باب الاستئناس بها، انغمست الناس في مشاغلها وراء البحث عن الحياة ومتطلبات المعيشة وسيطر عليها التفكير في المستقبل وما تخبئه الأيام القادمة وكيف تستعد لها ماديا ومعنويا وصحيا واجتماعيا ومكانة مرموقة تحظى بها النفس فتكون شيئا يذكر ويقال عنها أنها هنا حاضرة وها هي.... هذا الجرف الهائل نحو المستقبل بعصرنته وحداثة مقتنياته جعل تلك الصور، تدق عصف شجونها بين مطرقة الذاكرة وسنديان الاشتياق إن مرت هكذا نحو الواقع ”صدفة“ أو استحضرت في زمن قصير لموقف أو أمر ما استوجب وجودها لتعود مرة أخرى، تركن في زاويتها البعيدة في عالمها اللاواقعي تصول وتجول بين دهاليز القلب والروح والذاكرة.
المحزن في الأمر هو أن بعضها يتبخر، يذهب بلا عودة، حتى يختلط الأمر عليه أكانت حدثت بالفعل في يوم من الأيام أم أنها كانت من الأحلام!
وإن كان ذو حظوة من ذاكرة قوية واستوقفته لوحة منسية في تقاطع شارع قديم لم يطأه منذ سنين ووجد عليها بقايا صورة لطفل يأكل ”بسكوت نبيل“ ووراء تلك اللوحة، لوحة أخرى لصورة رجل يشرب ”الكوكاكولا“ بشكلها القديم، لا شك بأنها ستقتنص من ملامح وجهه وشفتيه ابتسامة عريضة، ويدب في قلبه قليلاً من الحنين الذي يود لو أن اللحظة التي هو فيها تعود أدراجها إلى الماضي؛ حيث الحارة القديمة وأحمد وسعيد وفؤاد ما زالوا يلعبون بالكرة وضحكاتهم المسموعة وشجارهم من يأت بالكرة من على سطح بيت الجيران!
هذا الحنين المؤقت سرعان ما يذوب بعد ابتعاده عن اللوحة وانعطافه إلى شوارع حياته الآنية، حيث تدور الأحداث بين جديد يحصل وقديم حصل ويذهب الجميع إلى سنديان الأشواق حين يحل محله التفكير في جديد المستقبل.