آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:58 م

منتدى الثلاثاء الثقافي والتَّنَوُّعُ الربيعي

جاسم الصحيح *

مُنْذُ الْتَقَى بالبحرِ هذا «السِّيفُ» والموجُ يهمسُ للرمالِ: «قطيفُ»!

و«قطيفُ» من بَوحِ المياهِ قصيدةٌ لا النظمُ يبلغُها ولا التأليفُ

ما طافَها عَصْرٌ وعادَ لأَهْلِهِ إلا عليهِ نَدَى المجازِ كثيفُ

فإذا الزمانُ اخْضَرَّ بين حروفِها فخَضَارُهُ عن إِسمِها تعريفُ

للمنتديات الثقافية حضورها في تاريخ الأدب العربي منذ قديم الزمن، كما لها دورها العريق في إثراء المشهد الثقافي، وتنوير المجتمعات عبر ربطها بآدابها، وتاريخها، تراثها والتراث الإنساني على وجه العموم. وإذا كان الظهور الأوَّل للمنتديات في الثقافة العربية قد حدث في أسواق العصر الجاهلي مثل «سوق عكاظ»، كما يرى العرب، فإنَّ التجلِّي الأجمل للمنتديات كان في العصر العباسي، كما يذكر المؤرخون عن «مجلس المأمون»، و«مجلس سيف الدولة الحمداني» وغيرها، خصوصا المجلس الأكثر شهرةً في الأندلس وهو الصالون الأدبي لـ «ولادة بنت المسكتفي» في قرطبة، والذي كان يحضره الشاعر الكبير «ابن زيدون».

أما في العصر الحديث «تحديدا في العقد الثالث من القرن العشرين»، فقد اشتُهر صالون الأديبة «مي زيادة»، وطبَّقت شهرته الآفاق، فقد كان يرتاده عمالقة الأدب العربي من مصر والشام مثل عباس العقاد، وطه حسين، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، والمفكر شبلي شميل، ومصطفى صادق الرافعي وغيرهم.

بعد هذه المقدمة التاريخية الموجزة عن المنتديات، أنتقل للحديث عن «منتدى الثلاثاء الثقافي» الذي أسَّسه الصديق الأستاذ «جعفر الشايب»، وما زال يقوم على إدارته في منزله المبارك، وهو يُحيي الآن ذكرى تأسيسه العشرين. «منتدى الثلاثاء الثقافي» من أعرق المنتديات الثقافية في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، شأنه في ذلك شأنُ «منتدى الينابيع الهجرية» في الأحساء، ومجلس «أحديَّة الشيخ أحمد آل مبارك» في الأحساء أيضا. وقد اتَّسم «منتدى الثلاثاء الثقافي» بالجِدِّيَّة في الطرح منذ انطلاقته، واستضاف الكثير من أئمَّة الفكر وأرباب الشعر والمثقفين المستنيرين من داخل المملكة وخارجها، وقام بتكريم الشخصيات الإبداعية التي حملت على عاتقها أحلام النهضة الأدبية، وهواجس التنوير الفكري، وإرادة التقدُّم العلمي.

تَجَسَّدَ «منتدى الثلاثاء الثقافي» خلال مسيرته في شكلِ مظلَّةٍ عالية، فاحتضن في ظلاله كلَّ أطياف المجتمع الثقافية في القطيف والمملكة عامَّة، دون أن يُحسَبَ على تيَّار ثقافي محدَّد. ورغم توالي السنوات، لم يفقد هذا المنتدى حيويَّته ونشاطه، ولم يتنازل عن جودة فعاليَّاته، ولا تخلَّى عن دوافعه الإنسانية والوطنية، ولا تجرَّد من مصداقيَّة أطروحاته. وقد كان لذلك كلِّه أثره الكبير على المجتمع الذي بادلَ «المنتدى» احتضانا باحتضان، واحتفاءً باحتفاء.

في «منتدى الثلاثاء الثقافي»، حضرت الفلسفةُ بصرامتها، والدينُ بقدسيَّته، والشعرُ بإضاءاته، والروايةُ بحبكتها، والفنُّ بنجوميَّته، والوطنُ بهمومه، والعالمُ بأحداثه؛ وقد كانت أجمعُها سواسيةً تحت مَجاهِرِ الحوار وكَشَّافات النقد. أمَّا المنتدى ذاته، فقد كان حقًّا ذلك المضمار التي تقارعت فيه الآراءُ قراعا نبيلا، وتصادمت فيه الأفكار صِداما راقيا، واستطاع أن يرسم للتطلُّعات الثقافية خارطةً تقود إلى المستقبل، وذلك عبر التواصل الدائم مع أهل الرأي وأصحاب الفكر.

أمَّا تجربتي الشخصية مع «منتدى الثلاثاء الثقافي» فهي تجربة قديمة بقِدَمِ هذا المنتدى، وقد تشرَّفتُ بالمشاركة في بعضِ أمسياته الشعرية، وحضور بعض أنشطته الثقافية. وما أسعدَني حقًّا هو وجود التَّنَوُّعِ الربيعيِّ الدائم بين أزهار حضوره وفعاليَّاته، وذلك لإيماني بأنَّ التَّنَوُّعَ يعني الحرية التي تمثِّل جوهر الثقافة؛ كما يعني قابليَّة الوعي للانفتاح، فليس بوسع المثقَّف أن ينتمي إلى معسكرٍ أخير، أو يُلقي برحلهِ على ضفَّةٍ نهائية، أو يحسم أمره باتجاه أيدولوجية معيَّنة؛ حيث إنَّ الثقافة هي حالةُ انتماءٍ للجمال أنَّى وُجِدَ الجمالُ، وبغضِّ النظر عن مصدره، وهذا ما يجعل المثقَّف منتميًا للجميع بمقدار ما هو منفصلٌ عن الجميع، حيث تكون له أناه الذاتية الخاصَّة بشخصيته، كما تكون له أناه الجمعيَّة التي تنتمي إلى الكون كله. إنَّ كلَّ انتماءٍ جماعيٍّ محدودٍ ومبتورٍ من الوعي الكوني بالإنسان، سواءً كان دينيا أو حزبيا أو قوميا أو غير ذلك، يقوم أوَّلَ ما يقوم على قمع الفرديَّة في النفس البشريَّة مما يجعلها غير قادرة على تحقيق ذاتها بقناعةٍ خاليةٍ من شوائب التأثير الخارجي عليها، وهذا ما يتناقض بامتياز مع روح الثقافة، ووعي المثقف، ورؤية «منتدى الثلاثاء الثقافي» الذي نبارك له، في ختام هذه الكلمة، ذكرى تأسيسه العشرين، وندعو له بالديمومة

شاعر وأديب، له عدة دواوين شعرية