الإنترنت.. خادمنا المُطيع أم سيدنا؟
منذ انطلاق ثورة الإنترنت أو ما يُسمى ”فقاعة الدوت كوم“؛ دخلت البشرية عهدًا جديدًا من التغيرات التي لم تكُن متوقعة، وانطلقت بصُحبتها تغيرات في مُختلف أوجه حياتنا اليومية، بدءًا بالانقلابات الجذرية في أفكار الإنسان ومُعتقداته، مرورًا بالتأثير على شكله وسلوكه وأقواله وأفعاله، وصولاً إلى اعتبار الفضاء الافتراضي جزءًا لا يتجزأ من عالمنا الواقعي بتأديته مهام التوثيق الإلكتروني في القطاعات الرسمية. ولا شك أن تلك الفقاعة تستحق اعتبارها نعمة عظيمة حين يتم تطويعها والتعامل معها باعتبارها ”خادمًا أمينًا“، لكنها تتحول إلى واحدة من أسوأ النقم حين يتم الاستسلام لها باعتبارها ”سيدًا لا يمكن الاستغناء عنه“ في ظل انعدام الخيارات الأخرى بذريعة ”التطوير“.
بدأ الإنترنت ”خادمًا“ للبشرية، ويجب أن يظل خادمًا ممنوعًا من التغوُّل إلى الدرجة التي تصل به إلى مرحلة استعبادها بصورة كاملة شاملة وتحويل البشر إلى كائنات مُنقادة له مُسخرة لخدمته، لا يأكلون طعامًا إلا عن طريقه، ولا يشترون سلعة إلا بواسطته، ولا يستأجرون مسكنًا إلا ما يعرضه، ولا يتبادلون الأحاديث الودية إلا إذا خزَّنها في أرشيف بياناته ليكون شاهدًا على حرمانهم من خصوصية مشاعرهم وأسرارهم إلى الأبد.
عالم الخدمات الواسع الذي فتح الإنترنت أبوابه على مصاريعها للعصاميين الأذكياء؛ قابله عالمٌ من الاستهانة بعقل الإنسان والشراهة للتلاعب برغباته وأحلامه ومشاعره، وتحويله إلى كائن يستهلك أكثر كثيرًا مما يُنتج، كائن توَّاق باستمرار للحصول على تلك الرفاهية التي يرى صورها بعينيه عبر مواقع التواصل الإلكتروني بنقرة إصبع دون أن يتحرك من مكانه ويبذل جُهدًا أكبر للعمل وكسب المال الكافي لاقتناء مظاهر الرفاهية تلك، فما دامت أجمل الصور المُغرية البرَّاقة تأتيه بنقرة إصبع بينما هو مستلقٍ على فراشه تحت بطانيته الدافئة، سيتبرمج عقله - عاجلاً أم آجلاً - أن له حق الحصول على مضمون الصور في عالمه الواقعي دون أن ينهض من فراشه ويخرج ليقضي ساعات يومه في العمل، وبما أن الأموال لا تنمو على الأشجار العادية ليقتطفها من هب ودب «وحتى لو كانت تنمو، سيتطلب الأمر مجهودًا لزراعة تلك الشجرة وتعهدها بالرعاية والحماية قبل أن تُثمر نقودًا!» ستكون نتيجة الصراع بين الوهم والحقيقة الاضطرار للجريمة في سبيل الحصول على أكبر قدر من المال بأقل وقت، أو الرضوخ لهيمنة الإحباط والأمراض النفسية المُزمنة، أو اتساع رقعة الانشقاق والطلاق والتشرد بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب عدم قدرة الواقع على إشباع شراهة الأوهام التي يُطلقها العالم الإلكتروني.
التطور مطلوب دائمًا للنهوض بالحضارة البشرية وتيسير حركة شؤونها اليومية، لكن لا بد من الانتباه لضرورة اغتراف ما ينفعنا من هذا التطور بحدود تحمينا من الأذى المُباشر وغير المُباشر، كي نظل سادة خيارتنا وقراراتنا دائمًا