الفقه الإسلامي ومفهوم المواطنة
استطاع العلماء والفقهاء المسلمين وعبر حقب زمنية عديدة، بفضل جهادهم العلمي واجتهادهم الفقهي المنفتح على كل العلوم والمعارف، أن يؤسسوا مكتبة إسلامية فقهية ضخمة، تستوعب كل موضوعات وقضايا الحياة الإسلامية، سواء كانت للأفراد أي آحاد المسلمين أو للمجتمع والأمة الإسلامية بشكل عام. ولا يمكن لأي باحث اليوم، أن يغفل أو يتجاوز التراث الفقهي الضخم الذي تركه فقهاء وعلماء الأمة.
ودائما كان العلماء والفقهاء هم السباقين لبيان وجهة نظر الدين تجاه كل القضايا والموضوعات الجديدة والمستجدة، والتي هي بحاجة إلى بيان الرؤية الفقهية تجاهها.
وبفعل مبدأ الاجتهاد وآليات الاستنباط الفقهي المدونة في كتب الفقه وعلم أصول الفقه، تمكن الفقهاء من صياغة رؤية أو موقف فقهي من كل القضايا المستجدة في حياة المسلمين.
ولعلنا لا نبالغ اليوم حين القول: أن أحد منجزات الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية التي قدمتها للإنسانية جمعاء، هو المنجز الفقهي - القانوني، الذي دونه آلاف الفقهاء والعلماء في كتبهم وأبحاثهم ودروسهم العلمية. والفقه الإسلامي في بنيته المعرفية والذاتية، يمتلك القدرة لتقديم إجابات ناضجة على أسئلة وقضايا العصر والاجتماع الإنساني.
ولقد أثبت الفقه الاسلامي هذه الحقيقة، من خلال العطاء النوعي والمتميز، الذي قدمه بعض العلماء والفقهاء في عصور زمنية للمسلمين وللمعرفة الإنسانية.
وما نود أن نثيره في هذا السياق، هو أحد الموضوعات الهامة والقضايا الملحة، التي تتطلب بحثا أو أبحاثا فقهية مستفيضة، حتى يتبلور الرأي والموقف الاسلامي بتفاصيله من هذا الموضوع الملح والحيوي والهام. وهذا الموضوع هو موضوع المواطنة. حيث أن من أنماط العلاقة الإنسانية المستجدة، والتي يترتب عليها حقوق وواجبات متبادلة هو علاقة المواطنة. فالدول والمجتمعات القائمة في حيز جغرافي واحد، أضحت اليوم من حقائق العصر الثابتة. فالأوطان اليوم حقيقة دستورية وقانونية، والعلاقة بين أبناء ومكونات هذه الأوطان قائمة على حقوق وواجبات المواطنة، بصرف النظر عن دين وقومية أبناء الوطن.
فكل الأوطان اليوم، تضم أجناس بشرية متعددة، ومكونات أيدلوجية أو قومية أو عرقية متنوعة، إلا أن الجامع الذي يجمع هؤلاء جميعا، ويحتضنهم ويوفر لهم الحياة اللازمة هو نظام الوطن والمواطنة. واختلافات المواطنين بكل مستوياتها وأشكالها، لا تلغي حقوق المواطنة وواجباتها. ولقد تمكنت المجتمعات المتقدمة بفضل هذا النظام «المواطنة» أن تتجاوز الكثير من انقساماتها وحروبها الداخلية، كما بنت أمنها واستقرارها السياسي والاجتماعي على قاعدة هذا النظام الدستوري إننا نعتقد أن هذا الموضوع من الموضوعات الهامة والحقائق الإنسانية الثابتة، الذي يتطلب رؤية فقهية - قانونية، تجيب على أسئلة هذا الموضوع، وتحدد الرؤية الشرعية من كل مقتضيات ومتطلبات هذا النظام، الذي ينظم العلاقة بين أفراد ومكونات إنسانية متعددة، يجمعهم وطن واحد ومواطنة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات.
وإننا نرى أن علماء وفقهاء الأمة، أفرادا ومؤسسات، لم يبذلوا الجهود العلمية المطلوبة تجاه هذا الموضوع الهام والحيوي، والذي يؤثر على علاقة المسلمين مع بعضهم البعض. فمصالح الأوطان التي يتواجد فيها المسلمين اليوم، ليست بالضرورة منسجمة ومتطابقة، لذلك من المهم بيان الرؤية الفقهية تجاه هذه المقولة «الوطن والمواطنة» والتي هي ليست علاقة عاطفية فحسب، بل هي علاقة قانونية - دستورية - سياسية - اقتصادية - اجتماعية - ثقافية، تتطلب صياغة نظرية فقهية معاصرة تجاه هذا الموضوع أو الظاهرة الإنسانية المعاصرة.
ولا ريب أن غياب العلماء والفقهاء عن مناقشة هذا الموضوع مناقشة علمية مستفيضة، له أسبابه الموضوعية التي ينبغي أن لا نغفلها حين الحديث عن أهمية أن يبذل الفقهاء جهدهم لصياغة نظرية فقهية - إسلامية تجاه مبدأ المواطنة. ولكن هذه الأسباب الموضوعية، ليست مبررا نهائيا لغياب هذا الجهد العلمي والفقهي. بل إننا نعتقد وبشكل جازم أن اليوم هناك مبررات وحاجات ماسة وملحة لضرورة الإسراع في بلورة الموقف الفقهي من مبدأ المواطنة.
ولعل من أهم هذه الحاجات والمبررات النقاط التالية:
1 - إن المواطنة اليوم من الحقائق الدستورية والقانونية والسياسية الهامة، والتي تؤثر في واقع المجتمعات الإسلامية على أكثر من صعيد ومستوى. فالأمة الإسلامية اليوم، موزعة في أوطان متعددة، وفي كل وطن مكونات متعددة، وقوانين مختلفة، مما يفضي إلى حقيقة وهي أن العلاقة الوطنية، هي العلاقة الحاكمة والتي تتجاوز كل العلاقات أو لها الأولوية على بقية العلاقات ودوائر الانتماء. ولا ريب أن هذه المسألة، تثير الكثير من الأسئلة والإشكاليات التي لا يمكن الإجابة عليها إلا بصياغة نظرية فقهية متكاملة تجاه مبدأ وواقع الوطن والمواطنة اليوم.
2 - إن الإنسان، أي إنسان، في حياته وممارساته الاجتماعية الطبيعية، ينتمي إلى دوائر إنسانية عديدة، تتكامل هذه الدوائر في حياته، دون تناقض والتباس. والانتماء الوطني هو من أحد هذه الدوائر التي ينتمي إليها الإنسان، دون أن يشعر أنها متناقضة مع انتمائه الأسري أو ما أشبه ذلك.
ويشير إلى هذه الحقيقة الشيخ محمد أبو زهرة بقوله: تبتدئ «أي عملية التوفيق بين الانتماءات» بمحبة الأسرة والعشيرة، ثم الجماعة، ثم الوطن، ثم الجماعة الكبرى في الإسلام، ولا تلغي الدرجة العليا ما دونها، ولكن المنهي عنه المحبة التي تؤدي إلى الفرقة والانقسام، وتحرض على الظلم، وهي العصبية الجاهلية. ونحن نرى أن وجود تنظيرات فقهية - تفصيلية حول مسألة الانتماء الوطني بكل مقتضياته ومتطلباته، يساهم في سلامة واستقرار الإنسان النفسي والثقافي والاجتماعي.
3 - إن الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية، التي تعيشها المجتمعات الإسلامية اليوم، هي ظروف حساسة وصعبة على أكثر من صعيد ومستوى، كما أن التحديات التي تواجهها، تحديات مرتبطة باستقرارها ووحدتها الداخلية. لهذا فإن الحاجة ماسة اليوم، لكل الجهود والمبادرات التي تساهم في تعزيز الجبهة الداخلية والوحدة الداخلية للمجتمعات الإسلامية. ومن المؤكد أن خروج العلماء والفقهاء من ترددهم من بحث وبيان مسألة الانتماء الوطني وقضايا المواطنة، سيساهم مساهمة كبيرة وأساسية في مشروع تعزيز الوحدة الداخلية والاستقرار السياسي لهذه المجتمعات.
4 - إن الانتماء الوطني يتجذر ويتعمق في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة، ويأخذ دوره الطبيعي في حياة الإنسان الخاصة والعامة، حينما ينفتح هذا المفهوم على الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والإنسانية التي يختزنها الإنسان من روافد متعددة. وانفتاح الجهد العلمي - الفقهي على هذه المسألة الحيوية، سيضيف لهذا الانتماء أبعاده الثقافية والإنسانية التي تبعده عن كل أشكال الشوفينية والنرجسية.
فحينما ينفتح انتماؤك الوطني على إنسانيتك ومخزونك الثقافي والإنساني، حينذاك سيثرى هذا المفهوم إنسانية ونبلا. أما حينما ينغلق هذا المفهوم وتحول عوامل ذاتية أو موضوعية دون التواصل والانفتاح على إنسانية الإنسان، فإنه سيصاب بالبساطة والتصحر، لأنه لم ينفتح ولم يستفد من البعد الإنساني الذي يختزنه كل مواطن.
إن المواطن هو الذي يمنح مفهوم الانتماء الوطني حركيته وديناميته وفعالياته. لذلك فإن انفتاح هذا المفهوم على المواطن بخصوصياته الثقافية والإنسانية، سيساهم في تحريك كل المواطنين باتجاه إثراء مفهوم الانتماء الوطني بالمزيد من الحقائق الثقافية والإنسانية.
لكل هذه الاعتبارات المذكورة أعلاه، فإننا نرى أهمية أن يبادر علماء الأمة وفقهائها لبلورة الرأي والنظرية الفقهية المتكاملة تجاه هذه المسألة الهامة. ولا ريب أن صياغة النظرية الفقهية حول هذه المسألة المتشعبة والمركبة، لا يمكن أن يتحقق بمقال فقهي أو فتوى فقهية، وإنما عبر عمل مؤسسي تتراكم فيه العطاءات والجهود حتى نصل إلى مستوى بلورة نظرية فقهية - إسلامية حول مسألة المواطنة.
لهذا فإننا ندعو المؤسسات البحثية والفقهية، إلى العناية بهذه المسألة، وتخصيص ندواتهم ومؤتمراتهم القادمة حول هذه المسألة بكل جوانبها وأبعادها. لأنها من المسائل الحيوية التي تؤثر في واقع المسلمين اليوم على أكثر من صعيد ومستوى. فلينفتح الفقه الاسلامي بآلياته الاستنباطية المتميزة على هذا الموضوع الذي يمس حياة المسلمين اليومية كأفراد ومجتمعات، وذلك بهدف العمل على صياغة نظرية فقهية متكاملة حول الوطن والمواطنة. ولا يكفي اليوم في ظل هذه الظروف الحساسة، القول بأن الإسلام لا يعارض الانتماء الوطني، وإنما من المهم بيان التأصيل الفقهي لهذه المسألة بكل متطلباتها ولوازمها. لأننا نعتقد أن وجود رؤية فقهية متكاملة حول هذه المسألة، سيساهم في اندفاع الكثير من الفئات والشرائح الاجتماعية للتعاطي الايجابي والفعال مع كل مقتضيات الوطن والمواطنة. وما أحوجنا اليوم لكل الجهود والمبادرات التي تعزز وحدة المسلمين وأوطانهم، وتجاوز كل المخططات والمؤامرات التي تسعى نحو المزيد من تجزئتنا وتفتيتنا.
ونحن هنا حينما نطالب العلماء والفقهاء، ببلورة رؤيتهم الفقهية حول مسألة الوطن والمواطنة، لإدراكنا التام أن هذا الموضوع من الموضوعات المركبة، والتي لها أبعاد متعددة، قانونية وشرعية وسياسية وثقافية واقتصادية. لذلك فأن يدلوا الفقهاء بدلوهم، ويوضحوا رؤية الفقه الإسلامي حول هذه المسائل، سيساهم في تقديرنا في تجلية الكثير من القضايا الهامة المتعلقة بهذا الموضوع.
ولعل قائلا يقول: أن مفهوم الأمة الإسلامية، أوسع كما ونوعا من مفهوم الوطن. وفقهاء الأمة وعلماؤها يلتزمون بحدود ومقتضيات الأمة. ولكننا نقول: أن أبناء الأمة الإسلامية اليوم، يتوزعون على أوطان إسلامية متعددة، ولا ريب أن إصلاح الجزء مقدمة لإصلاح الكل. كما أن مفهوم الانتماء الوطني، لا يناقض بأي حال من الأحوال الانتماء إلى أمة الإسلام. وعليه فإننا نشعر بأهمية أن يسعى فقهاء الأمة ومؤسساتها الفقهية والعلمية، لمقاربة هذا الموضوع، وبيان وجهة نظر الشرع في كل جوانبه وأبعاده.
والمواطنة في جوهرها وحقيقتها العميقة، ليست هي العلاقة العاطفية والوجدانية التي تربط الإنسان بمسقط رأسه، وإنما هي مشاركة متكاملة، وتكافؤ دائم في الحقوق والواجبات، وعلاقات اجتماعية وثقافية ودستورية متكاملة، تفرض حقوقا متبادلة بين جميع أطراف الوطن والمواطنين. والمجتمعات الإنسانية اليوم، لا تختلف عن بعضها البعض، في علاقتها الوجدانية والعاطفية بأوطانها. إذن كل الأمم والمجتمعات، تحب أوطانها، وتربط أبناء هذه المجتمعات بأرضها وتاريخها وشخوصها علاقات وجدانية وعاطفية إنما المجتمعات الإنسانية تختلف وتتمايز عن بعضها البعض في مدى تحقق معنى المواطنة في أبعادها الدستورية والسياسية والحقوقية..
فالمجتمعات المتقدمة، هي تلك المجتمعات التي ترتبط ببعضها البعض على الصعيد الداخلي برباط المواطنة، الذي يحدد الحقوق والواجبات، ويفرض أنماطا للعلاقة لا يمكن تجاوز مقتضياتها ومتطلباتها. أما المجتمعات المتخلفة والمتأخرة حضاريا، فهي التي لازال نظام العلاقة الداخلي فيها، يستند إلى عناوين ويافطات ما قبل الموطنة والدولة الدستورية الحديثة.
لذلك تكثر في هذه المجتمعات عناوين الانتماء التقليدية، التي تحبس الجميع، وتحول دون بناء وحدتهم وتضامنهم على قاعدة حقوق المواطنة وواجباتها. من هنا ومن أجل بناء مجتمعاتنا العربية والإسلامية على أسس تحفظ حقوقها من الجميع، وتصون الخصوصيات الثقافية واللغوية الموجودة في الفضائين العربي والإسلامي، من المهم أن تبادر المؤسسات والمعاهد العلمية والفقهية إلى إنضاج رؤيتها تجاه مفهوم المواطنة، والعمل على بناء العلاقات الداخلية في المجتمع الواحد على أساس المواطنة. وإننا نعتقد أن انفتاح الفقة الاسلامي بعدته العلمية وثروته القانونية ومرجعيته المعرفية، سيساهم في إثراء مفهوم المواطنة ثقافيا وقانونيا، وسيوفر الأرضية النظرية المناسبة للخروج من الكثير المآزق والتوترات التي تسود بين مكونات المجتمع واحد..
فالمواطنة بما تتضمن من واجبات وحقوق متساوية بين جميع أبناء الوطن الواحد، هي خشبة الخلاص من الكثير من التوترات التي تسود اليوم في العلاقة بين المكونات المتعددة التي يحتضنها الوطن الواحد..
فالمواطنة بما تتضمن من واجبات وحقوق متساوية بين جميع أبناء الوطن الواحد، هي خشبة الخلاص من الكثير من التوترات التي تسود اليوم في العلاقة بين المكونات المتعددة التي يحتضنها الوطن الواحد.
فالأوطان الواحدة، لا تتشكل من كانتونات دينية أو مذهبية أو قومية متحاجزة ومنفصلة عن بعضها البعض، وإنما من وطن ومجتمع واحد، يحتضن كل التنوعات والتعدديات، ويحترم وفق إجراءات قانونية ودستورية كل الخصوصيات الثقافية، ولكن دون الانحباس فيها.. بمعنى إن العلاقة التي تربط الدولة بمواطنيها، علاقة قائمة على قاعدة المواطنة، وليس على قاعدة الانتماءات الدينية أو المذهبية أو القومية. كما أن علاقة أبناء المجتمع والوطن الواحد، لا تستند إلى الانتماءات التقليدية للمواطنين، وإنما للعقد الجديد الذي يربط أبناء المجتمع الواحد، والذي يتجلى في مفهوم المواطنة.. ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر المغربي «طه عبد الرحمن» بقوله ”إن هذا المفهوم «المواطنة» اقترن بالفصل بين دائرتين من دوائر الحياة وهما: الدائرة العامة والدائرة الخاصة، ويدخل في دائرة الحياة العامة كما هو معلوم كل المعايير والقوانين والمؤسسات التي تتوسل بها الدولة في تنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، حفظا للصالح العام، في حين يدخل في دائرة الحياة الخاصة كل ما أختص به الأفراد من حريات وحقوق لا تشملها سلطة القانون ولا تخضع لنظام المجتمع. والمواطنة تتحدد في سياق نظرية مخصوصة في العدل قائمه على هذا الفصل الحداثي بين الدائرتين. إذ تقتضي هذه النظرية بأن يتمتع أفراد المجتمع الحداثي بحق المساواة في وضعهم القانوني بما يمكنهم من النهوض بواجب المشاركة في تدبير الحياة العامة، بصرف النظر عن اختلافاتهم في الاختيارات والانتماءات التي تعد جزءا من الحياة الخاصة“ [راجع كتاب روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية ص216]..وخلاصة القول: إن المطلوب اليوم هو العمل على تظهير مفهوم المواطنة وبناء المواطن على أسس الحرية والعدالة والمساواة..