آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 3:50 م

”الثلاثاءُ الثقافي“.. إرواءُ المُتعطشين!

عَهِدنَا مفردة ”الثقافة“ اصطلاحاً - وفق الأدبيات المعاصرة - إشارتها لمجموعة المعارف والعلوم والفنون والخبرات والتجارب الدينية والاجتماعية التي تُسيّر الأفراد أو الجماعات اتجاه الوجهة الصحيحة ضمن ”بوتقةِ“ ازدهارٍ فكريٍ يقود الأدمغة والعقول البشرية للامتزاج بين متنوع الثقافات والتنسيق فيما بينها من خلال صقل المواهب بالمعارف والعلوم والممارسات التراثية والأدبية والفنية والفكرية في سبيلٍ اجتماعيٍ أوحَدٍ يصوغه مَنْ يبذلون جلّ الطاقات التي تحافظ على بقائهم واستمراريته وتطويره في سياق انساني أو منهاج تكاملي يُشبِع الحاجات النفسية والبيولوجية والفكرية والاجتماعية والروحية القادرة على الانتقال من جيل الأجداد إلى الأبناء عبر عمليات التثقيف والتنشئة والتربية والإعداد الثقافي والمجتمعي المتنوعة، التي غالباً ما تتجلّى أهميتها في إنجاز الوحدات المتكاملة والدرجات المتجانسة بين أفراد المجتمع وإيجاد التقاطعات والميول والاهتمامات المشتركة فيما بينهم وتشكيل طابعهم التراثي الذي يُميّز أبناء هذا المجتمع عن غيرهم من المجتمعات الأخرى، علاوة على تمكين كيانهم الاجتماعي ودعم تماسكه التي تتضح مظاهره النفسية والاجتماعية في المشاعر والتّوجهات وسلسلة العلاقات بين أفراده.

يقودنا الحديث عن الثقافة إلى ما يُمكن تسمّيتها بحالة ”التّعطش“ التي تفيض في جميع فروع العلوم والمعارف الإنسانية المتعارفة، حيث يتمشّى انتشار الثقافة طرداً وعكساً مع تقدم الأمة أو تأخرها، على اعتبار أنّ المثقف الواعي - إذا ما صُحّ توصيفه - هو الذي يجمع إلى معلوماته الخاصة بناحية معينة من العلوم والمعارف حصيلة اطلاعاته على كثير من الكتب والمؤلفات في مختلف الفنون، علاوة على خبراته الاجتماعية المتراكمة أو الإنسانية المكتسبة من حُسن ”المعاشرة“ مع الآخرين وتتّبع أخبارهم وأساليب معايشهم وأُطُرِ حياتهم.

على أيّة حال، تبدو حالة التّعطش الثقافي، من الظواهر البيّنة في المجتمعات الخليجية بعد أنْ تجلّت مظاهرها في التّعداد المتعاظم للمنتديات والصالونات الثقافية بموازاة المنازل والمقاهي الأدبية التي انتشرت منابرها في الآونة الأخيرة كمرآة عاكسة لنبض الشارع الخليجي اجتماعياً عِبرَ ثلّة من المهتمين بالثقافة يجتمعوا بصورة أسبوعية أو شهرية أو فصلية في منزل أحد المثقفين أو الوجهاء، فيتداولون فيما بينهم شتّى الموضوعات الحاضرة بثقلها أدباً وشعراً، وبتأثيرها ثقافة وعلماً، بِكمّ الأسئلة وتنّوع النقاشات التي تتلاون وفق ألوان مراحلها المتنوعة، أو تتألق وتخبو حسب المُتاح في مساحاتها الممتدة.

برزت أهمية هذه المنتديات كواحدة من أدوات التعبير عن غايات الوجود الثقافي الذي أسهم في إثراء الحركة الفكرية وخرّج العشرات من العظماء باعتبارها ”قُبَلٌ“ ثقافية ومراكز إشعاع يفوح شذى نكهاتها الفكرية جُلّ بسطاء المجتمع ونُخبه المثقفة، بأسلوبه الفاعل وعمقه المؤثر في إدارة أمسيات النقاش والتداخل الثقافي الذي حقّق التواصل بين رموز الفكر والثقافة في تبادل وجهات نظرهم وتوجيه رؤاهم الخلاقة التي أبدعت التناسق الفكري وأُحيّت الضمير الجمعي فيما بينهم؛ حتى بدت مناشط ثقافية قوية التأثير شديدة الفاعلية بينهم، في أفنية المعارف المتعاظمة وسُوح الرؤى المتدفقة التي تُعلي من شأن الثقافة وأقطابها في أروقة مناشطها وثنايا تعبيراتها، العاكسة لضروراتها التاريخية ومتطلباتها الحضارية بعد توسيع أرضية التلاقي بينها على منصات الإبداع الفكري الرصّين.

”منتدى الثلاثاء الثقافي“ Thulatha Cultural Forum الذي تأسسّ قبل عقدين من الزمن على ضفاف الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية الشقيقة برعاية رئيس المجلس البلدي السابق بمحافظة القطيف المهندس جعفر الشايب، يأتي واحد من الحواضن الثقافية الذي ترك - رغم فتاوة عمره - إرثاً مؤثراً وحفر عمقاً بالغاً وأبقى شواهد بارزة على ”إرواء“ حالة التعطش الثقافي والفكري بين مختلِف طبقات وشرائح المجتمع السعودي، بعد أنْ أطلق العنان للأفكار ”الحبيسة“ في المؤلفات والكتب والدراسات والأبحاث القابعة على أرفف المكتبات وفي أروقة الجامعات كي تفرض ذاتها على المشهد الاجتماعي وتُسهم في تجسير الهوة الثقافية بين الأجيال وتُبلور خياراتهم في طرح متعدد القضايا المجتمعية والتعريف بحزم البرامج الثقافية والمبادرات الاجتماعية التي أفاضت فيها شخصيات رسمية ومتخصصون في مختلف المجالات العلمية والاجتماعية والصحية والفكرية والحقوقية، علاوة على مواضيع التعايش المجتمعي والسلم الاهلي والتسامح الديني والتعددية والتنوع وحقوق الانسان وتجديد الفكر الديني التي عزّزت من قيّم الثقافة المتعمقة والفكر النيّر عِبْرَ الحوار البنّاء والآراءَ الناقدة بين ثُلل النخب المثقفة التي غذّت الفضاء الاجتماعي - في داخل السعودية والخليج - بزخمها الثقافي المتواصل وعطائها الفكري المستديم.

أكاديمي وكاتب صحفي
(مملكة البحرين)