مفهوم الاعتدال السياسي
في زمن الفتن والاصطفافات الطائفية والهوياتية، تتضاءل فرص الاعتدال السياسي، وتزداد أشكال التشدد الديني والسياسي..
ولعل نظرة واحدة للعالم العربي اليوم، نكتشف أن من ضحايا الظروف الراهنة في المنطقة، هو تراجع الاعتدال السياسي، وبروز كل أشكال التطرّف والتشدد.. بحيث أصبح المعتدل في موقع الضعف والاهتراء.. وأصبح التشدد هو عنوان اللحظة الراهنة على كل المستويات..
وهذا بطبيعة الحال، يزيد من الاحتقانات والتوترات، ويعلي من شأن كل العصبيات..
وكل هذا ينعكس مزيداً من غياب الاعتدال وبروز كل أشكال التشدد والتطرف..
بحيث يصبح الخطاب المعتدل غير مقنع لأحد، وكل طرف بصرف النظر عن طبيعته وجوهره، يبرز جوانب التشدد لديه.. ونظرة واحدة وعميقة في المشهد السياسي العراقي، نشعر أن الجميع يزداد اشتعالاً وتشدداً.. ولعل من مآزق المشهد السياسي العراقي اليوم، هو بروز كل نزعات التشدد واضمحلال كل أشكال وعقليات الاعتدال السياسي لدى الجميع.. ومن يبحث عن الشعبية والتأييد الاجتماعي لأفكاره ومشروعاته، يجد أن لا طريق أمامه للحصول على كل هذا، إلا التشدد والبعد عن الاعتدال السياسي..
فالجميع بدأ يشعر أن الاعتدال يضيع مشروعه، ويفقده الحضور الاجتماعي المؤيد له..
وهذا الكلام ينطبق على كل المساحات العربية بدون فرق جوهري كبير بين كل الساحات العربية..
ولا ريب أن ضعف الاعتدال وبروز التشدد الديني والسياسي، ليس هو الطريق الذي يحافظ على المكاسب العربية.. بل إننا نعتقد وبعمق أن التخلي عن نهج الاعتدال السياسي والتمسك بمعالمه وضروراته، يساهم في انسداد الأفق السياسي على المستوى البعيد..
صحيح أن التشدد يزيد من فرص الالتفاف الاجتماعي، ولكنه لا يغير معادلات الواقع، ولا يوفر فرص ومناخ التحول التاريخي الذي تنشده ظروف الواقع السياسي في أكثر من موقع ومساحة سياسية واجتماعية..
وتعلمنا تجارب العديد من الشعوب والحياة السياسية لهذه الشعوب، أن الاعتدال السياسي الذي لا يحظى بشعبية وازنة اليوم، إلا أنه أفضل الخيارات على كل الصعد والمستويات..
فالتشدد الديني والسياسي، يضيع الكثير من الفرص والمكاسب، ويزيد من الاختناقات والتي تبقى بلا محاولة واقعية لمعالجة الأمور..
ومن يعتقد أن التشدد هو الخيار المناسب للعرب لعودة هيبتهم وعنفوانهم، هو يرتكب خطيئة سياسية وتاريخية بحق العرب ومصالحهم الحيوية..
فالتشدد لا يبني واقعاً للقوة النوعية، وإنما يضيع القوة القائمة، دون أن يتمكن من خلق قوة بديلة..
ومن يعتقد بأن التشدد سيحافظ على مصالحه ومكاسبه، هو يرتكب بحق نفسه وأمته خطيئة تاريخية كبرى..
فالتشدد يضيع المصالح ولا يحافظ عليها، ويفاقم من المشكلات ولا يعالجها، ويزيد من فرص التوترات على كل صعيد ومستوى..
وسيبقى الخيار التاريخي لكل الدول العربية والإسلامية، هو الاعتدال السياسي، الذي يراكم القوة على المستويين الاجتماعي والسياسي، ويعالج كل المشكلات بوسائل سلمية وقادرة على اجتثاثها من الجذور..
ويبدو على هذا الصعيد أن الممارسة السياسية والاجتماعية حينما تستند على الرغبة دون المعطيات والحقائق، هو الذي يؤسس لخيارات التشدد على كل المستويات..
بينما الاعتدال يستند إلى الممارسة التي تستند على المعطيات والحقائق.. فالإنسان يتحرك وفق معطياته وحقائق واقعه، لذلك هو يتحرك وفق إمكاناته وقراءته الدقيقة لواقعه وواقع مجتمعه..
أما الذي يتحرك برغباته، فهو يتحرك دون النظر إلى إمكاناته ومدى الاستعداد لدى هذه الامكانات لهذا الخيار أو ذاك..
ومن يتحرك برغباته سيصدم بحقائق واقعه.. هذا الاصطدام الذي يزيد من ضعفه النوعي..
وعليه فإن ركيزة الاعتدال السياسي الواقعي، هو أن الانسان يتحرك بإمكاناته وليس برغباته.. وتعلمنا الحياة أن الحركة بالرغبة تزيد من فرص الأزمات بدل علاجها، وتؤدي إلى الارباكات على كل الصعد والمستويات..
لذلك يبقى المطلوب لدى الدول أو الجماعات أو الأفراد هو الاعتدال السياسي، الذي ينطلق من امكاناته، ويعمل حينما ينطلق أن يراكم عناصر القوة لديه دون تبديدها..
وفِي تقديرنا أن العودة إلى الاعتدال السياسي، هو الخطوة الضرورية لمعالجة الكثير من المشاكل في العالم العربي المعاصر..
وكل هذا يدفعنا إلى القول: أن الالتزام بالاعتدال السياسي، هو الخيار الأنسب، لمعالجة مشاكل الراهن، وبناء القوة النوعية للذات.. ومن يبحث عن خيار دون ذلك، فإنه سيفاقم من أزمات الذات دون وجود القدرة الفعلية لمعالجة المشاكل والأزمات..
وجماع القول: إننا في العالم العربي دولاً وشعوباً، بحاجة إلى التمسك بالاعتدال السياسي دون التهور وتبني خيار التشدد الذي يفاقم من أزمات العالم العربي.. وإنه مهما كانت الصعوبات، سيبقى الخيار الذي لا بديل عنه، هو خيار الاعتدال السياسي والديني..