آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 9:31 م

بين العقول الذاتية والعقول العلمية

علي محمد عساكر *

من خلال دخولي في الكثير من الحوارات والمناقشات، ومتابعتي للكثير منها أيضا، خرجت بنتيجة هي أن الكثيرين يحتجون بالعقل دون أن يعرفوا ما هو المراد من العقل!

فتراهم - مثلا - يقولون: هذا مستحيل عقلا، أو غير ممكن عقلا، أو ما تقوله مخالف للعقل... أو ما شابه ذلك من تعبير يدل على اعتماد «المنهج العقلي» في المناقشة والحوار والاحتجاج.

وحين تسألهم عن مرادهم بهذا العقل الذي يحتجون به، تكتشف أنهم يعنون عقولهم الذاتية، وتصوراتهم الشخصية، وأذواقهم الخاصة!

وفي تصوري القاصر أن الذي أوقع هؤلاء الأخوة في هذا الخطأ أو الاشتباه هو عدم تفريقهم بين «الرؤى والأفكار» وبين «المناهج العقلية» مما جعلهم يعتقدون أن ما تنتجه عقولهم من أفكار معيّنة في قضية معيّنة هو ما يحكم به العقل!

وليس هناك من مشكلة أعظم وأكبر من أن ندعي أننا نحتكم إلى شيء، دون أن نعرف ذلك الشيء أصلا!

والشيء المهم الذي يجب أن نشير إليه، ونؤكد عليه، هو أنه ليس المراد بالعقل - في البحوث والدراسات والنقد والمناقشات - العقول الذاتية، ولا الأذواق الخاصة، ولا التصورات الشخصية، بل الحق أن هناك عقولا ذاتية وأخرى علمية، والعقول العلمية هي المرادة، والمعتمدة في مناقشة سائر القضايا والمواضيع.

وفي كتابنا «النقد عن العلامة الفضلي» حاولنا توضيح هذه المسألة فتناولناها بتوسع وتفصيل كبير، وذلك أثناء عرضنا لرؤية العلامة الفضلي للعقل الذي يجب اعتماده والاحتكام إليه في دراسة ومناقشة سائر القضايا والمواضيع، ولا بأس أن نقتطف شيئا مما قلناه هناك ليساعدنا ذلك على توضيح هذه المسألة التي من المهم جدا أن تكون واضحة لكل من يريد أن يقدم دراسات، أو يقوم بنقد، أو يدخل في مناقشات، فقد كان مما قلناه: «من أهم مؤهلات الناقد التي يجب توافرها فيه، واتصافه بها، والداخلة في آليات النقد ووسائله، هو أن تكون لدى الناقد القدرة الكاملة على التفريق بين العقل الذاتي وبين غيره من العقول المرادة في ممارستنا للنقد، وكتابتنا للبحوث العلمية، والتي يجب اعتمادها، والانطلاق منها في مناقشة القضايا، وأن يعرف أين يوظّف وكيف يستعمل هذا، وأين يوظّف وكيف يستعمل ذاك، ليولّد ذلك لديه القدرة على مناقشة القضية وفق العقل العلمي المتعلق بها.

والذي نعنيه بهذا الكلام، هو: أن لدى كل إنسان منا عقله الذاتي، الذي يستخدمه في تعقل الأشياء، ومحاولة فهمها واستيعابها.

وفي البحوث والدراسات النقدية، هناك ما يعبّر عنه بالعقول العلمية المناسبة لطبيعة البحوث بمختلف أنواعها.

والمراد بهذه العقول هو المناهج العلمية بما لها من قواعد وأصول.

ومتى أراد الباحث أن يبحث في قضية علمية معيّنة، محاولا التفكير فيها، والدراسة لها، والاستنتاج منها، فعليه ألا يستخدم عقله الذاتي استخداما عشوائيا، معتمدا فيه على الآراء الشخصية المجرّدة، أو على الذوق والاستحسانات الخاصة، بل يجب أن يستخدم عقله الذاتي استخداما علميا، بمعنى أن ينطلق في التفكير في تلك القضية تفكيرا منطقيا، ومحاولة مناقشتها من خلال اعتماده على تلك المناهج العلمية، المتعلقة بتلك القضية.

ففي الدراسات النقدية الاجتماعية، يجب أن نعتمد العقل الاجتماعي، الذي يراد به المبادئ العقلية الاجتماعية المتفق عليها بين جميع الناس في مختلف المجتمعات، والمتعلّقة بالحسن والقبح العقليين في الصفات والأفعال فيما يعود إلى كمال الإنسان ونقصه، كحسن الصدق والوفاء والعدل... وقبح الكذب والخيانة والظلم.

وفي القضايا الكلامية والفلسفية والمنطقية، يجب استخدام العقل الفلسفي، الذي ذكره سماحة العلامة الفضلي بهذا الاسم، وعرّفه بقوله في ص33 من كتابه أصول البحث: «أعني به المبادئ العقلية الفلسفية، التي يلتقي عندها العلماء جميعا، وهي مبدأ العلية، ومبدأ استحالة التناقض، ومبدأ استحالة الدور، واستحالة التسلسل.

وسمّيته فلسفيا، لأنه هو الذي يقول ببداهة وضرورة هذه المبادئ، وهي مما يدرس، ويؤكّد عليه في الفلسفة، وعليه يقوم المنهج العقلي، الذي يتخذ من الدرس الفلسفي مجالا له»

وهكذا في بحث كل قضية يجب على الباحث أن يستخدم العقل المناسب لها، وذلك حسب نوعها وطبيعتها، وقد تحدث سماحة العلامة الفضلي عن بعض هذه العقول، وعرّفها وبيّن موارد وكيفية استعمالها وذلك في ص33 وما بعدها من كتابه «أصول البحث» فراجع.

وفي ج2ص180 من كتاب «المعجم الفلسفي» للدكتور جميل صليبا في تعريف قوانين العقل: «هي الأوليات والمبادئ الأساسية التي يتقيّد بها العقل في التفكير المنطقي...»

وفي ص181 في تعريف القانون العلمي: «ويطلق اصطلاح القانون العلمي على الصيغة التي تعبّر عن علاقات ثابتة بين ظواهر الأشياء...»

وفي الصفحة ذاتها في تعريف قوانين الفكر: «هي المبادئ الأساسية التي لابد للعقل من إتباعها حتى يكون استدلاله صحيحا...»

وبتعبير أصرح وأوضح: ليس المراد من العقل إلا التزام المنهج العلمي المتعلق بالقضية محلّ البحث والدراسة، فمتى أراد الكاتب الكتابة - سواء كانت كتابته دراسة نقدية أو غيرها - فعليه أن ينظر إلى تلك القضية التي سيتناولها، ويعرف - أولا وقبل كل شيء - من أي العلوم هي، ووفق أي المناهج يجب أن تكون دراستها ومناقشتها، ثم يتناولها انطلاقا من ذلك العلم، ووفق ذلك المنهج، ملتزما بأصوله وقواعده كل الالتزام.

وهذا يتطلب أن تكون لدى الباحث القدرة على توظيف العقل الذاتي توظيفا علميا في التفكير حسب نوع قضية البحث، والتمكّن من دراستها من خلال قواعد وأصول منهجها الخاص بها.

وهذا هو الذي سماه العلامة الفضلي «الذهنية العلمية» واشترط توافرها في الباحث، وعرّفها في ص239-240 من كتابه «أصول البحث» بأنها: «القدرة على التفكير تفكيرا علميا... قادرة على التفكير طبق قواعده العلمية»

ولاحظ تعريفه للتفكير العلمي بأنه القدرة على التفكير طبق القواعد العلمية، فهو يشرح ويؤكد ما أشرنا إليه من ضرورة توظيف العقل الذاتي في التفكير طبق قواعد البحث وأصوله.

وقد لخّص العلامة الفضلي ذلك كله بقوله عن صفة المنهجية التي يجب أن يتصف بها الباحث، وذلك في ص240 من كتاب أصول البحث: «أن يكون الباحث عارفا بأصول المنهج العلمي العام، وقواعد أصول المنهج العلمي الخاص، اللذين يناسبان موضوع بحثه، مع وجود القدرة لديه على هندسة بحثه وفق قوانين المنهجين، ليصل إلى نتائج سليمة»

وهندسة البحث ليست إلا التفكير فيه تفكيرا علميا، وتنظيمه تنظيما دقيقا، وفق قوانين المنهجين: العامّ والخاصّ، حسب تعبير سماحته...

إلى أن قلنا بعد كلام طويل عريض: «فليس المقصود بالعقل الذي يجب أن نعمل به، وهو حجة علينا، والحكم الفيصل بيننا، العقل الذاتي الموجود عند الجميع، وإنّما هو العقل الشرعي، أو العقل الاجتماعي، أو العقل الأخلاقي، أو العقل الفلسفي، أو العقل العلمي... وذلك حسب طبيعة الموضوع الذي نبحث فيه، وما يحتاجه من عقل يجب أن نحتكم إليه، لأن هذا العقل هو القاعدة التي يجب أن ننطلق منها في الحوار حول جميع القضايا في جميع العلوم، وأحكامه شاملة لجميع الناس بدون استثناء، فيذعنون لها، ويسلّمون لأحكامها، مهما اختلفت عقولهم الذاتية، من حيث مستوى الوعي والفهم والإدراك»

هذا بعض ما قلناه في كتابنا «النقد عند العلامة الفضلي» في بيان وتوضيح المراد من العقل في البحوث العلمية، وبيان الفرق بينه وبين العقول الذاتية، نكتفي به على أمل أن يكون كافيا في البيان، مع ملاحظة أننا نقلنا المصادر وبعض التعليقات من الهامش إلى المتن تسهيلا على القارىء الكريم، كما أننا اختصرنا كثيرا وإلا فالموضوع طويل جدا إذ أنه يصل إلى 12 صفحة من ص91 إلى ص103.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
ر ع
[ القطيف / القديح ]: 2 / 1 / 2021م - 4:09 م
أحسنت
طرح مهم جداً
يحتاج لفهمه الكثيرون في أيامنا هذه

هو باختصار مبسط جداً:
لو أعطيت أحدهم مسألة رياضية
فلن يحل المسألة إلا بالقاعدة الخاصة بها
2
ر ع
[ القطيف / القديح ]: 2 / 1 / 2021م - 4:19 م
معذرة تكملة على الرد

1- العقل يدل على ان الحل لايأتي الا من خلال قاعدة

2- يجب معرفة آلية عمل القاعدة