آسفون أيها الماضي الحنون
رُغم أنه عُرض للمرة الأولى على الشاشة الصغيرة عام 1988م؛ إلا أن مُسلسل ”الراية البيضا“ مازال يستحوذ على اهتمام كُل مُشاهدٍ ذوَّاق يُشاهده بعد أكثر من ثلاثين عامًا على عرضه الأول، بتلك الحبكة الدرامية المُتقنة التي عُرفت بها سيناريوهات المُبدع ”أُسامة أنور عُكاشة“، والرؤية البصرية الرائعة للمخرج المُتميز ”محمد فاضل“، مسلسل من مُسلسلات عصرٍ كان أكثر رأفة بعقل الإنسان ومشاعره، وأكثر احترامًا لقيم الرُّقي الإنساني وعلى رأسها الفن الأصيل والثقافة الحقيقية.
يُناقش المُسلسل حكاية الصراع بين الحق مُتمثلاً بالثقافة والإبداع ومنطق العقل، وبين الباطل مُتمثلاً بالجهل والفظاظة والسوقية مدعومة بسُلطة المال، وكيف أن الباطل بجُهلائه وتافهيه يستغل المال لإعلاء شأنه وإخراس كلمة الحق وخنق حياته.. الطريف في الأمر أن تلك الحكاية ذكرتني بماضٍ كُنا نعيشه في عالمنا العربي، وربما العالم كُله «باعتبار الإنسان هو الإنسان في كل زمانٍ ومكان»، حين كانت الأزمة بين جهلٍ يملك المال وسُلطته وبين وعي وثقافة لا يملكانه، وكيف أن ذاك الماضي صار مُستحقًا للتوق والحنين بعد أن صار الجهل والفجاجة وقلة الذوق قادرين على مُحاربة الجمال والثقافة دون أن يكون للمال أو النفوذ دورًا في سيناريو الأحداث، لقد وصلنا إلى مرحلة نرى فيها من لا يملكون المال ولا الوعي ولا الثقافة ولا المعرفة ولا حتى الأخلاق الطيبة يعتبرون مُحاربة من يملكون نصيبًا راقيًا من المعرفة والثقافة والإبداع والوعي الرفيع دون خجل، ودون إدراك لمكانهم الحقيقي على خارطة القيمة البشرية، وللفوارق الإنسانية المُستحِقة للاحترام وعدم التجاوز!
ثمة تعبير لذيذٌ مُتداول في اللهجة السورية يقول: ”كبرت الخسّة براسه“، أي أن هذا الشخص تضخم الوهم في رأسه فصار مغرورًا يُصدق أنه بحجم وبأهمية من هم أكبر وأهم منه، ولا يسعنا تجاهُل دور وسائل التواصل الاجتماعي ”السوشيال ميديا“ المُتاحة للجميع في ”تكبير الخسَّة“ برؤوس كثيرين، ولم نعُد نرى ذاك الاحترام والتقدير الذي كان موجودًا قبل عقود للإنسان الذي يملك قيمة معنوية أو قيمة مادية ممن لا يملكونهما، وصار المُتميزين بحاجة لإحاطة حياتهم بالسريَّة حماية لأنفسهم ونجاحاتهم من أذى الفارغين.
صحيح أن ”فضة المعداوي“ بطلة مُسلسل ”الراية البيضا“ كانت جاهلة وهابطة الذوق، إلا أنها كانت تملك الذكاء الفطري، والاجتهاد، والمال، وشبكات العلاقات، لذا كان وقوفها في وجه ”الدكتور مفيد أبو الغار“ الديبلوماسي السابق، حامل شهادة الدكتوراة، عاشق الثقافة والفن والإبداع يمتاز بشيء من التكافؤ بين كفتي ميزان الصراع، لكن ما يحدث اليوم أنك ترى ”بغبغ بن بغبغينو“ الذي لا يعرف الخمسة من الطمسة ولا يملك في عقله فكرًا ولا في جيبه قرشًا يحشد ”البغابيغ“ من أمثاله بهواتفهم المحمولة، وباقات إنترنتهم المجانية، وحسابات اسمائهم المُستعارة، لمُحاربة أشخاص حصدوا نجاحهم عن جدارة واستحقاق سواءً وصلوا إلى هذا النجاح على طريقة ”فضة المعداوي“ أو طريقة ”الدكتور مفيد“.