لا إكراه في الدين
ثمة علاقة دقيقة وعميقة تربط بين قدرة الانسان على التفكير واستقلاله فيه، وبين قيمة الحرية وممارسة مقتضياتها.
فالانسان الذي يمتلك امكانية التفكير المستقل، هو ذلك الانسان الذي يستطيع استعادة حريته وانسانيته، ويستثمر طاقاته وامكاناته في سبيل تكريس نهج الحرية في الواقع الانساني. فاستعادة الحرية بكل متطلباتها وآفاقها، تبدأ من الانسان نفسه، فهو الذي يقرر قدرته على التحرر والانعتاق او خضوعه واستغلاله واستبعاده لمراكز القوى. وذلك لأن التفكير السليم، هو الشرط الاول للقوة في الحياة. من هنا ركز القرآن الحكيم على ان الايمان بالله يعطي صاحبه التحرر، والتحرر يعطيه القوة «التمسك بالعروة الوثقى» والعلم «يخرجه من الظلمات الى النور». ولكن أي ايمان هذا الذي يعطينا القوة والعلم. انه الايمان الواعي، لا الايمان المكره عليه فهو الآخر نوع من الاستعباد والخضوع للقوة المادية.
من هنا تحدث القرآن في بداية الحديث عن الحرية الدينية وقال «لا اكراه في الدين». فجذر الحرية، هو ان يتحرر الانسان من كل الضغوطات والاهواء والشهوات، التي تدفعه الى الانسياق وراءها. فحينما يغمر الايمان بالله عز وجل قلب الانسان، ويتواصل بحب واختيار مع القدرة المطلقة، تنمو لديه القدرة على الانعتاق من كل الاشياء التي تناقض حرية الانسان. فطريق الحرية الانسانية الحقيقة، يبدأ بالايمان والعبودية المطلقة للباري عز وجل. وذلك لأن كل الاشياء حاضرة عنده، لا يغيب شيء منها عن علمه، لأن الاشياء مكشوفة لديه، فلا مجال لاختباء الانسان عن الله في أي عمل يخفيه، او سر يكتمه او خطأ يستره، لأن الاخفاء والكتمان والستر معان تلتقي بالحواجز المادية التي تحول بين الشيء وبين ظهوره مما لا مجال لتصوره في ذات الله الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور.
ولعل هذا الاحساس هو الذي يتعمق في وعي الانسان من حركة ايمانه فيمنعه عن الجريمة الخفية، والمعصية المستورة، والنيات الشريرة التي تتحفز للاندفاع والظهور.
من هنا وقفت النصوص القرآنية ضد الاكراه والسيطرة، ودعت الرسول صلى الله عليه وسلم الى التحرك في اجواء الابلاغ والاقناع وحركة حرية الفكر والتعبير. اذ قال تعالى ﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾.. «الكهف، الآية 29»..
وقال عز من قائل ﴿فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر﴾.. «الغاشية، الآية 22».. وقال تبارك وتعالى ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾.. «يونس، الآية 99»..
وقد تحدث الأستاذ «جودت سعيد» في كتابه «لا اكراه في الدين - دراسات وابحاث في الفكر الاسلامي» عن مجموعة من الفوائد من آية «لا اكراه في الدين» منها:
1 - إنها في ظاهرها حماية للانسان الآخر من ان يقع عليه الاكراه من قبلك، ولكنها في باطنها حماية لك ايضاً من ان يقع عليك الاكراه، فهي حماية للآخر وحماية للذات من ان يقع على كل منهما الاكراه.
2 - يمكن فهم هذه الآية على انها اخبار وليس انشاءً، أي يمكن ان تفهم على انها نفي وليست نهياً، ويكون بذلك معناها اخباراً بأن الدين الذي يفرض بالاكراه لا يصير ديناً للمكره فهو لم يقبله من قلبه، والدين في القلب وليس في اللسان. فهي بهذا الشكل اخبار بأن الدين لا يتحقق بالاكراه ومن يكره انما يقوم بعمل عابث لا اصل له.
هذا معنى الآية حينما نفهمها على انها اخبار وليس انشاءاً او امراً، كما يمكن ان نفهم الآية على اساس الانشاء أي ان تفهم على انها نهي عن الاكراه، لأنه لا يليق بالعاقل ان يقوم بعمل عابث، ولأن فرض الايمان والدين بالاكراه عبث فجدير ان ينهانا الله عنه، فيكون المعنى نهياً عن ممارسة الاكراه للآخر، ونهياً ايضاً لنا عن ان نقبل الاكراه والخضوع له.
فرشد الانسان فرداً ومجتمعاً، هو من جراء التزامه بحريته واحترامه التام لحريات الآخرين. فحينما تنتفي كل الضغوطات والاكراهات، يتحقق مفهوم الرشد في الواقع الخاص والعام..
فالحرية بكل ما تحمل من معان انسانية نبيلة وقيم تعلي من شأن الانسان وكرامته، وتحميه من كل نزعات الاستفراد والاقصاء والنبذ والاكراه، هي بوابة الرشد ووسيلته في آن. وهي التي تخرج الانسان من الغي وتخلق حقائق الاستمساك بالعروة الوثقى.
والمجتمع الذي يمارس حياته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بعيداً عن كل اشكال الاكراه والعنف، هو المجتمع الرشيد الذي يدافع عن حقوقه ومكاسبه بالحرية. وبها ايضاً يصون حرمات الآخرين ومكاسبهم.
والتاريخ يحدثنا ان كل من يمارس الاكراه والعنف للدفاع عن ذاته، لا ينجز مراده ولا يحقق هدفه، بل ترتد عليه هذه الممارسات اكثر سوءاً ويدخل في اتون النزاعات والحروب والعنف والعنف المضاد.
إن الاتحاد السوفيتي لم يستطع ان يحمي ذاته من التشرذم والانقسام والتلاشي، مع العلم انه يمتلك اعتى الاسلحة واطورها. فهذه الاسلحة الفتاكة لم تمنع الشعوب المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي من النهوض ورفض كل اشكال القهر والاكراه.
فالحضارات لا تبنى بالاكراه، كما ان الافكار لا تنتقل بالقسر والاكراه. فما اكثر الامبراطوريات التي انهارت وتلاشت واصبحت في ذمة التاريخ، بفعل اعتمادها واستنادها على القهر والاكراه. وفي المقابل نجد ان هناك امماً ودولاً صمدت في وجه كل عمليات القمع والقسر والاكراه، لأنها تدير شؤونها وتسير امورها بحرية وديمقراطية، وبعيداً عن كل اشكال القهر والاكراه.
فالحياة دائماً لكل امة ومجتمع يدار بالحرية، وينبذ الاكراه بكل صنوفه واشكاله ومستوياته. ويرتكب حماقة تاريخية كبرى كل من يسعى الى ادخال غيره في دينه او مذهبه او حزبه بالارغام والاكراه.
لذلك فإن الحرية من القيم الاساسية في حركة الانسان الفرد والجماعة، وبها يقاس تقدم الامم وتطورها. اذ لا يمكن ان يتحقق التقدم إلا بالتحرر من كل معوقاته وكوابحه. والحرية هي العنوان العريض للقدرة الانسانية على ازالة المعوقات وانجاز اسباب وعوامل النهوض والانعتاق.
لذلك نجد ان الانبياء جميعاً حاربوا الاستبداد والاكراه، ووقفوا في وجه الفراعنة، وعملوا من مواقع مختلفة لارساء دعائم الحرية للانسان. ولقد فك الانبياء جميعاً العلاقة بين الفكر والعنف، فحرروا معركة الافكار من معركة الاجساد، والله تعالى حمى الاجساد من ان يعتدى عليها من اجل الافكار، فلم يعط لأحد الحق على جسد الآخر مهما كانت فكرته. وفي سبيل نيل الحقوق والحريات، لم يشرع الله سبحانه وتعالى للانبياء ممارسة الاجبار والاكراه، وانما حدد مهمتهم ووظيفتهم في الدعوة بالموعظة الحسنة والتبشير والنذير.
فالوظيفة الكبرى هي هداية البشر، بوسائل عقلية - سلمية، بعيدة كل البعد عن كل اشكال الضغط والقوة والاكراه.
وعلى هدى هذا نقول: انه لا يجوز التضحية بحريات الافراد تحت مبرر معارك الخارج وتحدياته الحاسمة. اذ انه لا يمكن ان نواجه تحديات الخارج بشكل فعال، إلا اذا وفرنا الحريات والحقوق لجميع المواطنين.
ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول بأن مجالنا العربي والاسلامي في العقود الخمسة الماضية قد قلب المعادلة. اذ سعت نخبته السياسية السائدة، الى اقصاء كل القوى والمكونات تحت دعوى ومسوغ ان متطلبات المعركة مع العدو الصهيوني، تتطلب ذلك. واصبح شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» هو السائد. ولكن النتيجة النهائية التي وصلنا اليها جميعاً حاكماً ومحكوماً، ان هذا الخيار السياسي لم يوصلنا إلا الى المزيد من التدهور والانحطاط، وبفعل هذه العقلية اصبح العدو الصهيوني اكثر قوة ومنعة، ودخلنا جميعاً في الزمن الإسرائيلي بكل تداعياته الدبلوماسية والسياسية والامنية والثقافية والاقتصادية.
فتصحير الحياة السياسية والمدنية العربية والاسلامية، لم يزدنا إلا ضياعاً وتشتتاً وضعفاً. ولقد دفع الجميع ثمن هذه الخطيئة التاريخية. لذلك آن الاوان بالنسبة لنا جميعاً ان نعيد صياغة المعادلة. فلا انتصار تاريخي على العدو الصهيوني، إلا بارتقاء حقيقي ونوعي لحياتنا السياسية والمدنية. فارساء دعائم الديمقراطية وصيانة حقوق الانسان. كل هذه الممارسات والمتطلبات من صميم معركتنا التاريخية والحضارية. وانتصارنا على العدو الخارجي، مرهون الى قدرتنا على انجاز هذه المتطلبات في الداخل العربي والاسلامي. فالاكراه الديني والسياسي، لا يصنع منجزات تاريخية، وان صنعت سرعان ما يتلاشى تأثيرها من جراء متواليات الاكراه وامتهان كرامة الانسان.
فآراء الانسان مصونة، بمعنى ان الانسان لا يقتل بسبب آرائه وافكاره. والآراء والافكار والقناعات، لا تواجه بالقوة المادية او استعداء الآخرين، وانما بالرد الفكري والحوار المتواصل وبيان اوجه الخطل والضعف في الآراء المتداولة.
لذلك كله فإن الحرية قبل ان تكون اشكالاً سياسية ونصوصاً دستورية، هي خروج كل فرد فينا عن انانيته وافقه الضيق ومغادرة تلك الافكار الاحادية والاقصائية والاستغنائية، التي لا تزيدنا إلا بعداً عن الديمقراطية ومتطلباتها الفكرية والمجتمعية.
لذلك فإن النواة الاولى للاستقرار والتطور، هي الاحترام العميق للآخرين مشاعر وافكاراً ووجوداً، ومساواة الآخرين بالذات، ونبذ كل اشكال ممارسة الاكراه.
وإننا اليوم وفي كثير من مواقعنا، احوج ما نكون الى رفع شعار «لا اكراه في الدين» والعمل على تحويله الى مشروع مجتمعي ينظم حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ويرفع الغطاء الديني عن كل الممارسات العنفية والارهاية، التي لا يقرها عقل ولا دين ولا تنسجم وثوابت الامة.
فلننبذ من فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي، كل الممارسات الاكراهية والاقصائية، ونبني راهننا على اسس الحرية واحترام التعدد والتنوع، ونفسح له المجال لممارسة دوره ووظيفته في البناء وتعزيز خيار السلم والتعايش الأهلي.