آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الحاجة إلى مبدأ المواطنة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

المواطنة، مفهوم إشكالي، كونه يحمل أكثر من مقاربة. ومرد الارتباك في تعريفه، يكمن اختلاف المنطلقات الفكرية، والموقع الاجتماعي. لكن من المسلم به أن التعريف مشتق، من الوطن، وقد ارتبط في تطبيقاته بالدولة الحديثة، التي نتجت عن عصر الأنوار الأوروبي، والثورة الصناعية، والثورات الاجتماعية التي شهدتها القارة الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحديداً مع الثورة الفرنسية عام 1789. إذاً فالمعنى كما هو مستخدم الآن، وافد من خارج الإطار المعرفي العربي.

وفي هذا السياق، يشير مفهوم المواطنة إلى المساواة والندية وتكافؤ الفرص، وإلى حقوق وواجبات الأفراد المنتمين إلى دولة ما، ينص عليها الدستور، وتصبح عنوان الهوية.

التطورات التاريخية، والثورات الاجتماعية فرضت الانتقال، من المفهوم القديم الذي سادت فيه الإمبراطوريات، والحكم المطلق، والذي يعتبر الفتح، بالرضا أو القوة، من أساسيات نشوء الكيانات الكبرى، إلى مفهوم الدولة المبني على العلاقة التعاقدية. وعناصر المواطنة، هي الأرض والسيادة والعقد الاجتماعي.

هذا التطور، لا يوجد ما يماثله، على الصعيد العملي، في البلدان العربية، بسبب مورثات ثقافية ساكنة ومتكلسة، ولتعطل النمو في الهياكل الاجتماعية، الذي ورثته هذه المنطقة، نتيجة طغيان الاستبداد العثماني على الأمة، لقرون عديدة.

مبدأ «المواطنة» يعتبر الهوية السياسية والقانونية قاعدة للعلاقة بين أعضاء مجتمع سياسي. وتستند المواطنة، إلى مشتركات ثقافية. والمبدأ كما أشرنا، مرتبط بظهور الدولة الحديثة، التي ارتبطت بعصر القوميات، ونشوء نظام جديد في العلاقات الدولية، يوفر حماية قانونية لحدود كل دولة من خلال اعتراف الجيران وبقية دول العالم، بسيادتها ضمن هذه الحدود. وإلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى ونشوء عصبة الأمم، استمر الاعتراف عملياً بحق الفتح، الذي يتيح للإمبراطوريات التوسع في ممتلكاتها، على حساب الأمم الأخرى.

في ظل دولة المواطنة، التي ارتبط تطورها بعصر الأنوار الأوروبي، يعيش المنتمون للدولة، تحت خيمة الوطن، يتمتعون بذات الحقوق، ولا يعود للتشكيل الديموغرافي أو الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي، أو الإثني، قيمة تضفي تميزاً في الحقوق على الآخرين. والمواطنة بهذا المفهوم، تعطي للاختلاف والتنوع شكلاً إيجابياً، يضيف قوة للمجتمع ولا يأخذ منها.

العقد الاجتماعي، ركن أساسي في دولة المواطنة، وترسخ حضوره، بعد صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو «1712-1778» الذي وضع تصوراً متكاملاً عن فكرة العقد. وقد أثرت نصوصه في صياغة الدستور الأمريكي، عام 1784. وقد تأثر روسو بكتابات توماس هوبز وجون لوك، ومونتيسكيو.

تصور هؤلاء الفلاسفة أن الدولة ينبغي أن تقوم على نظام اجتماعي تعاقدي، يعبر عن توافق أبناء الأمة، ويمثل الإرادة العامة للمجتمع. وقد طور روسو هذه النظرية، لتتحول مع الأيام، إلى تعبير عن سيادة دولة القانون، واحتكار الدولة لسلطة الإلزام.

تطور مفهوم المواطنة لاحقاً، بوصول الطبقة الوسطى إلى سدة الحكم، في دول المركز، ليتضمن دولة الرفاه حيث لكل مواطن حق في الرعاية. والدولة تضمن كفالة الذين لا يتمكنون من الاعتماد على أنفسهم، كالأطفال والمرضى وكبار السن والعاجزين والعاطلين عن العمل. وقد أضاف هذا التطور، حقوقاً اقتصادية لمفهوم المواطنة، إضافة إلى الحقوق السياسية.

وقد انطلق المفكرون والفلاسفة الذين أسهموا في صياغة مبدأ المواطنة، من اعتقاد راسخ بأن الطبيعة تقوم على طغيان الأقوى، حيث يغيب التسامح والتعاون من أجل العيش المشترك. إن شيوع مبدأ المواطنة، سيتكفل بلجم نزعات القوة والسيطرة، من خلال تدشين مؤسسات سياسية وقانونية، بعيدة عن هيمنة النزعات الفردية أو الفئوية. وذلك ما يسهم في تنظيم الحياة العامة وحماية الملكية الخاصة، وأن يطبق القانون على جميع الناس بغض النظر عن مواقعهم وانتماءاتهم.

والأهم في دولة المواطنة، هو تمثيلها لإرادة المجتمع، كونها تنبع من إجماع الأمة ومن إرادتها المشتركة. إن ذلك يعني أنها دولة قانون، فهي اتحاد أفراد يخضعون لنظام من القوانين، ويعيشون في مجتمع واحد. ويتحقق العدل من خلال وجود سلطة عليا، تحمى حقوق المجتمع، أفراداً وجماعات، وتمنع أي نوع من الانتهاكات أو التعديات عليها.

تستند هذه الدولة إلى شبكة من العلاقات، قوامها التسامح وقبول الآخر والمساواة بالحقوق والواجبات. وتؤسس هذه القيم لثقافة مبدأ الاتفاق؛ المستندة إلى احترام القانون،. وإلى السلام والعيش المشترك، ورفض العنف، وإلى القيم الإنسانية العامة، ورفض النزعات المتطرفة.

في دولة المواطنة، يؤسس القانون قيمة العدل، والثقافة قيمة السلام الاجتماعي، والمواطنة قيمة المساواة.