رغم الجائحة السعودية أبحرت في الموج العالي
نمو الاقتصاد
أشار بيان وزارة المالية لميزانية عام 2021 إلى أن الاقتصاد سينكمش في عام 2020 بمعدل 3,2 في المائة بالأسعار الثابتة، وأنه سيتحول إلى التوسع حيث من المقدر أن يحقق نموا قدره 3,7 في المائة في عام 2021. هذه التقديرات تتسق مع التقديرات الدولية لنمو الاقتصاد السعودي، كما أن آفاق نمو الاقتصاد السعودي مدعومة بمستويات عالية من الإنفاق العام استمر بوتائر تريليونية دونما انقطاع لأربعة أعوام على التوالي، بما في ذلك إنفاق رأسمالي لم يتوقف حتى في عام الجائحة لبناء سعة للاقتصاد السعودي تمكنه من تلقي استثمارات فوقية منتجة. ومع ذلك يلاحظ توجه الميزانية للعودة لتحقيق التوازن المالي، فبعد أن ارتفع عجز الميزانية في عام 2020 إلى نحو 298 مليار ريال، نجد أن العجز المقدر لعام 2021 يهبط لنحو النصف «141 مليار ريال»، ومن المؤمل أن يستمر في التقلص ليبلغ -13 مليار في عام 2023، ويأخذ الدين العام خطا هابطا موازيا بعد أي ارتفاع إلى 34,4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام الحالي 2020، ليتراجع بالتدريج ليصل إلى ما دون 32 في المائة في عام 2023.
إن كانت العبرة بالأفعال، وها نحن في الأيام الأخيرة من عام 2020، فلنستعرض الأفعال. قبل بداية العام كانت السعودية قد أعلنت ميزانية توسعية طموحة، تقدر إيراداتها بنحو 833 مليار ريال ونفقات 1020 مليار ريال بعجز مقدر بنحو 187 مليار ريال «6,4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي». رغم ضعف الإيرادات النفطية، باعتبار أن المنطلق هو تحقيق مستهدفات ”الرؤية“ وبرامجها، وأن أيام التخطيط سنويا وفقا للإيرادات النفطية قد انقضت، وأنه لا بد من إعداد الأولوية لإنجاز الخطة والوصول إلى المستهدفات، بتوظيف الفسحة المالية. وقد شهدت الإيرادات تراجعا من المقدر حيث بلغت 770 مليار ريال، شكلت الإيرادات غير النفطية منها 358مليار ريال مقابل 412 مليار ريال للإيرادات النفطية. وفي المقابل كانت النفقات أعلى مما كانت مقدرا، حيث بلغت 1068 مليار ريال، حيث شهد الإنفاق التشغيلي تجاوزا للمقدار بفعل شراء السلع والخدمات، مقابل تراجع الإنفاق الرأسمالي عما كان مقدرا بنحو 19 في المائة. ووفقا للقطاعات، فقد سجل الإنفاق على التعليم المرتبة الأولى بمبلغ 205 مليارات متفوقا على الإنفاق العسكري والإنفاق على الصحة.
لا جدال أن عام 2020 عام مختلف بكل المعايير، كورونا جعلت له وقعا ثقيلا، فقد أدخلت العالم بأسره نفقا لم يعرف أحد منتهاه، لكن ككل تحد واجه البشرية، يتمكن الإنسان بما وهبه الله له من تفكير وتدبير أن يتغلب على الصعاب، وها نحن نشهد بواكير التطعيم بلقاح كوفيد - 19. وهو أمر يمثل بداية النهاية لجائحة كورونا التي فتكت ب 1,6 مليون شخص من بين نحو 73 مليونا أصابتهم العدوى.
تتفاوت التوقعات بشأن نمو الاقتصاد العالمي، فصندوق النقد الدولي يتوقع انكماشا للعام الحالي قدره 4,9 في المائة، ونموا لعام 2021 قدره 5,4 في المائة، في حين نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعات أقل تفاؤلا، مفادها انكماش الاقتصاد العالم لعام 2020 بنحو 7,6 في المائة، يتبعه نمو 2,8 في المائة لعام 2021 وأن الاقتصاد العالمي سيتعافى بالكامل من تداعيات الجائحة في عام 2022.
كيف كان أداء الاقتصاد السعودي في عام 2020؟
يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد السعودي بنحو 5,7 في المائة عام 2020، ويأخذ مسار النمو الإيجابي عام 2021 بمقدار 3,1 في المائة ويستمر حتى عام 2025 في حين أن توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أكثر تحفظا للنمو الناتج المحلي الإجمالي بانكماش قدره 5,1 في المائة للعام الحالي 2020 يتبعه نمو بمقدار 3,1 في المائة لعام 2021 يتحسن إلى 3,6 في المائة عام 2022.
ورغم التأثير السلبي الصادم للجائحة في الاقتصاد العالمي، فقد كان أداء الاقتصاد السعودي في المنطقة الوسط على نسق أداء دول مثل اليابان وكندا وألمانيا، التي انكمشت اقتصاداتها في عام 2020 في حدود 5,1-5,5 في المائة. وفي هذا السياق، فلعل من المناسب بيان أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي - على أساس ربعي - في الربع الثالث من هذا العام 2020 كان نموا إيجابيا بمقدار 1,2 في المائة، بعد انكماش قدره 4,9 في المائة في الربع الذي قبل الربع الثاني، وهو أول نمو إيجابي على مدى أربعة أرباع، أي: منذ الربع الثاني لعام 2019، عندما حقق الربع نموا قدره 0,2 في المائة.
التجارة الخارجية
في عام 2019، بلغت قيمة التجارة الخارجية للسعودية 1,52 تريليون ريال، محققة فائضا قدره 439 مليار ريال. وعند النظر لمنحنى التجارة الخارجية نجده يتأرجح من عام إلى عام، فمثلا نجد في عام 2016 الصادرات تقلصت ثم نمت في عامي 2017 و2018 ثم تقلصت عام 2019. ويتبع هذا تأرجحا في الميزان التجاري من عام لعام. ورغم أن الميزان التجاري السلعي يحقق فائضا، إلا أن تأرجحاته كبيرة، فمثلا بلغ 632 مليارا عام 2014 وتقلص عام 2015 إلى 108 مليارات. وعند النظر إلى الميزان التجاري غير النفطي، نلحظ عجزا، حيث مثلت الصادرات غير النفطية نحو 40 في المائة من الواردات. وفي ظل الجائحة، وتحديدا في الربع الثاني من عام 2020، تراجعت الصادرات والواردات بنسبة 53,6 في المائة و22,8 في المائة على التوالي. بل إن الربع الثاني من عام 2020 مثل علامة فارقة بأن حقق الميزان التجاري السلعي عجزا ضئيلا «28 مليون ريال» لأول مرة منذ عقود.
رئاسة مجموعة العشرين
لم تكن مجرد استضافة لقمة العشرين، فهذه القمة أتت في عام أبحر فيه العالم في أمواج متلاطمة، فلم يكن الإبحار كالمعتاد، كانت هناك منعطفات صادمة وأخرى لنوازل مستجدة، خرجت السعودية من كليهما باقتدار، فاجتازت بالمجموعة الصعاب رغم التحديات، كل ذلك ولم تنس السعودية للحظة إصرارها - وفي وقت متزامن - على مبادأة رعاية سكانها صحيا واقتصاديا ضد تبعات الجائحة، دون التراجع في جهد التحول من اقتصاد قائم على استخراج ما في الأرض من خبايا، إلى اقتصاد قائم على استخراج ما في الإنسان من عطايا الإبداع والإنتاج.
وليس من شك، أن تكون في ناد للقوى الأكبر فهو نجاح يسجل لما تحقق من إنجازات متراكمة، وحافز للإصرار للارتقاء فيما هو مقبل. وخلال عام رئاستها مجموعة العشرين أثبتت السعودية قدرتها لأخذ زمام المبادرة بصياغة أولويات الأجندة العالمية على أكثر من صعيد: اقتصادي، مالي، اجتماعي، بيئي، فكري، تقني، ولم تنس أبدا الدول النامية فدفعت بأحد أهم المبادرات وهي تأجيل ديون الدول الأكثر فقرا. كما بينت السعودية قدرتها على إدارة الملفات العالمية رغم إرباك جائحة كورونا لدول العالم على أكثر من صعيد، بما في ذلك كيف ينبغي أن تعقد الاجتماعات، ومع ذلك أطلقت السعودية مبادرة لتوفير اللقاح والبحوث لمكافحة كورونا بمبلغ قدره 21 مليار دولار، أسهمت فيه دول المجموعة ودول أخرى.
الإنفاق الحكومي
في اقتصاد كاقتصاد المملكة، فإن لدور الإنفاق الحكومي دور مؤثر، فهو القاطرة الفاعلة لبقية الأنشطة، كما أن للدعم والتنظيم الحكوميين أهمية لا تقل تأثيرا. ولذا، فإن عقول وقلوب المتابعين تتبع بأهمية وشغف إعلان الميزانية وبنود الإنفاق فيها، فجزء مهم منها سيتحول ليعزز الطلب على منتجات وخدمات القطاع الخاص. ويتبع أي انخفاض في الإنفاق أو تغيير في بيئة الأعمال والتنظيم سيؤثر بطبيعة الحال في نمو القطاع الخاص. وخلال ما مر من أشهر جائحة كورونا، أي: منذ مارس 2020، فإن الإنفاق الحكومي جدد أهميته بأنه يستمر وإن خبا ما تنفقه بقية القطاعات التنظيمية للاقتصاد.
وثمة من يحسب إيرادات النفط ويتتبع أسعار البرميل الفورية والمستقبلية، وكيف أنها تتراجع. وبالتأكيد فأي تراجع لإيرادات النفط سيؤثر في وقت من الأوقات على الخزانة العامة للدولة. ومع ذلك فلا ينبغي أن يخرج من نطاقات الحسابات أن هناك سياسة مالية متأهبة، بما يمكن التعبير عنه ب ”ماص للصدمات“، وهو ليس فقط الاحتياطي العام للدولة، بل إعادة هيكلة التروية المالية لترتكز إلى تحقيق التوازن المالي دون تعسف والاستفادة من الفسحة المالية دون إجحاف. وهكذا، نجد أن التذبذبات الآنية لأسعار النفط لن تنعكس مباشرة على الاقتصاد المحلي، فالإيرادات تذهب للخزانة. أما ما يؤثر مباشرة فهو القدر الذي تقرر الحكومة أن تنفقه. وفي هذا السياق فالواقع يقول: إن الحكومة قررت مواصلة الإنفاق بغض النظر عن تدني الإيرادات غير النفطية والنفطية المتراجعتين خلال أشهر الجائحة، وما زالت ونحن في الشهر العاشر من عام 2020، والشواهد تقول: إن التراجع مستمر، وقد يطول مع الأسف، إذ يبدو أن ضربة كورونا كانت تحت الحزام، وجعلت كثيرا من الدول تتحدث عن الاقتصاد الأخضر، كأنه جزء من نشيدها الوطني، وفي وقت الأزمات تتخذ الدولة الموقف بعيد الأثر، وإن كان الأكثر تكلفة، هذا ما عايشناه في هذه الأزمة - كورونا -، كما سبق أن انتهجت الحكومة سياسة جسورة في الإنفاق عام 2005 مع انهيار سوق الأسهم، وبعدها أكدت التزامها الاستراتيجي بتحقيق التنمية عام 2008، عندما خصصت 400 مليار دولار للإنفاق على برنامجها التنموي. ذلك الالتزام حقق للاقتصاد السعودي نموا في أحلك الظروف العالمية.
وفي هذه الأزمة خفف الإنفاق الحكومي من قدر انكماش الاقتصاد، وبدأنا نشهد بواكير اتجاه القطاعات غير النفطية نحو البدء في التحسن، كما بينه مؤشر PMI العالمي في الأسبوع الماضي، عندما تجاوزت قيمته 50 نقطة. لكن انقشاع الجائحة يتطلب هيكلا اقتصاديا جديدا، يتجاوز الحديث عن تقسيم اقتصادنا إلى نفطي وغير نفطي، اقتصادا متنوعا يميل إلى الخضرة.