حديث عن المستقبل العربي
الوضع العربي، كما يبدو على السطح، قائم ومحبط، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ فالموضوع الذي تواجهه الأمة، لا يختزل في حالة سكونها، وعجزها عن الحراك الإنساني العالمي الدائر من حولها؛ بل تعبّر عنه حالة النكوص والتراجع في العمل العربي المشترك، وتعطيل آلياته، وعدم قدرته على التجدد.
لقد نشأ النظام العربي الراهن، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ومنذ ذلك الحين، سالت مياه كثيرة، وتغيرت أشكال الحكم والإدارة؛ بل إن النظام العالمي الذي انبثق بعد الحرب الكونية الثانية مباشرة، لم يعد موجوداً؛ حيث انتهى مع مطالع التسعينات من القرن المنفرط. والآحادية القطبية التي ورثت ذلك النظام، هي الأخرى، تتراجع، لتتواصل مسيرة التاريخ بأشكال جديدة أخرى، عاكسة حقائق القوة الاقتصادية والسياسية الجديدة في العالم. ومع ذلك بقينا نحن نراوح مكاننا، وفي هذه المراوحة؛ تتراجع قيم ومنظومات أخلاقية ووطنية وقومية، سكنت في اليقين طويلاً.
حين نتحدث عن المستقبل العربي، لا نهدف من وراء ذلك، إلى توصيف هذا الواقع، ولكن فيما ينبغي أن يكون عليه؛ وذلك لن يتحقق إلا بتراكم الوعي والقدرة على الفعل، وعناصر الإرادة. وهي أمور لا نحسبها تعد أمراً مستحيلاً، حتى وإن بدت الصورة كالحة الآن.
وفي هذا السياق يجدر التذكير، بأن الأقطار العربية، بحكم نشأتها وتطورها التاريخي، ليست متجانسة من حيث إمكاناتها وثقلها الاقتصادي والسكاني والعمراني والثقافي. فقد كان لبعضها الدور الريادي في صناعة الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ، وقد استمر هذا الدور في حقب متعددة، وحلقات ممتدة، وصولاً إلى العصر الحديث. ومما لا شك فيه أن ذلك ترك بصماته الواضحة على المستوى الثقافي والحضاري والتنموي في تلك البلدان، وبالتالي على طبيعة الأداء السياسي فيها.
ومما لا شك فيه أن التفاوت الزمني في الحصول على الاستقلال ترك آثاره السلبية على التضامن والتنسيق والتكامل بين الأقطار العربية، فقد جرى تشكيل مؤسسات وهياكل الدولة في الأقطار التي أنجزت استقلالها على أسس محلية، ومن دون تصور استراتيجي، يأخذ بعين الاعتبار حقيقة ارتباط هذه الأقطار بوطن أكبر؛ هو الأمة العربية.
وقد لعبت التركيبة البطركية دوراً أساسياً في تغييب أية إمكانية لتحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي، حتى بين الأقطار التي استقلت مبكراً. كانت حكومات تلك الأقطار، لأسباب خاصة بها، تنظر إلى ذاتها على أنها الطليعة في قيادة النظام العربي الرسمي، بينما هي في حقيقتها، أسيرة لاتفاقيات ومعاهدات تحد من قدرتها على الحركة والفعل، وتفتقر مادياً وموضوعياً لمؤهلات القيادة.
ولا شك أن استعار الحرب الباردة، ومحاولاتها المحمومة؛ لاستقطاب أكبر عدد من المؤيدين والحلفاء، واتخاذها من منطقتنا ساحة لصراع عقدي وسياسي واستراتيجي فيما بين القوى العظمى؛ قد ساعد على تمزيق اللحمة بين الأقطار العربية، وأسهم في تأجيج الخلافات بين حكوماتها، حين انقسمت الحكومات العربية في ولاءاتها، باتجاه هذا الفريق أو ذاك.
لا بد إذاً من مراجعة شاملة للنظام العربي الراهن، فليس من المعقول، أن تستمر هياكل وأنظمة صيغت قبل سبعين عاماً، تجاوزها الزمن بفعل التطور التاريخي، وتغير الخرائط السياسية وموازين القوى، من دون أي تغيير أو تطوير.
إن جملة من التغييرات الجوهرية مطلوب إحداثها بشكل ملح في العلاقات العربية العربية، يأتي في المقدمة منها: إيجاد علاقة مستديمة، قادرة على الصمود في وجه الرياح، وغير خاضعة للتقلبات السياسية المحلية، تأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الثوابت؛ أهمها: التعادل والتكافؤ والتبادلية والمصالح المشتركة لشعوب هذه المنطقة.
وفي هذا الصدد، لا بد من فصل المصالح المشتركة، عن الخلافات السياسية. لقد تمكن الأوروبيون من المحافظة على مصالح شعوبهم، في ظل اختلافات جوهرية في سياساتهم الخارجية.
ويقيناً أن أولى الخطوات الجادة على هذا الطريق؛ هي تحقيق الإصلاح السياسي، وأن يتأسس النظام العربي الرسمي من الداخل؛ بحيث يعاد النظر في الهياكل والسياسات والبنيان الداخلي لكل نظام عربي على حدة، وأن ينتقل المجتمع العربي، من النظام التقليدي، إلى نظام عصري متجانس مع روح العصر وقوانين التطور؛ فذلك وحده السبيل لوضع الأماني والطموحات المشروعة، في الحرية والتقدم والنماء، لشعبنا العربي على الطريق الصحيح.