آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

من روائع التراث الأحسائي:

لغز نحوي من صور التعليم في الأحساء.. الإثارة الذهنية

محمد علي الحرز

تجسد القصيدة الأجواء العلمية التي يعيشها طلاب العلم في الأحساء مع أساتذتهم وشيوخهم من التشجيع والحث على التزود من المعارف العلمية وعدم الركون إلى التكاسل والتقاعس، فالمعرفة هي المعيار الحقيقي في التفاضل والتفاخر، وفيها دعوة إلى التنافس والهمة العالية بين طلاب العلم، إضافة إلى إعمال وتحريك العقل، والتي يمكن أن نعبر عنها بالرياضة والتمارين الذهنية.

وسنحاول من خلال هذه الأرجوزة الجميلة التي نظمها الشيخ محمد بن عبد الله آل رمضان الأحسائي «ت 1240 هـ »، وسجلها تلميذه الشيخ أحمد بن حسين آل حرز البحراني الأحسائي أن نعطي لمحة عن بعض معالم الحراك العلمي الأحسائي ومشابهته لما يدور في أروقة المدارس والحوزة العلمية الكبرى التي تكشف عن العلاقة المتينة بين الأستاذ والتلميذ التي هي أقرب إلى الرابطة بين الأب والابن بما تحمله من حنان ومشاعر جياشة وخلق القدوة الصالحة والحسنة التي تبقى مغروسة لدى الطالب مدى الحياة.

شرح ابن الناظم على ألفية أبن مالك

«النحو»

تأليف: أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك الطائي «640 - 686 ه».

المصدر: مكتبة الشيخ أحمد بن إبراهيم البوعلي الأحسائي «1310 - 1397 هـ »، ثم أصبحت من مقتنيات مكتبة المؤرخ جواد الرمضان.

الناسخ: أحمد بن حسين بن أحمد الحرز الأحسائي، وقد فرغ من نسخها 27 محرم الحرام سنة 1208 هـ .

وقد ختمها بقوله:

«وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق يوم السابع والعشرين من الشهر المحرم شهر عاشورا لسنة 1208 هـ  الثامنة بعد المائتين والألف من الهجرة على يد الأقل المفتقر إلى رحمة ربه الأمجد أحمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حرز البحراني أصلا الأحسائي مولداً غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين المؤمنات آمين».

على النسخة تعليقات وتهميشات من الشيخ عبد المحسن بن محمد اللويمي الأحسائي «ت1244 هـ ».

قيد الشيخ أحمد بن حسين آل حرز بعد نسخه كتاب «ألفية ابن مالك» في آخر النسخة المذكورة أرجوزة في مدح العلم وخاصة علم النحو العربي وفي آخر الأرجوزة لغز نحوي، وهي معنونة ب «وقال الشيخ الفاضل المحقق المدقق محمد بن عبد الله بن رمضان الأحسائي عفى الله عنه بمنه وكرمه» [1] .

شخصيات اللغز النحوي:

تضمن اللغز النحوي شخصيتين أرتبط اسمهما بهذه الأرجوزة سنحاول أن نستعرض سيرتهما بشيء من الإيجاز كمدخل للدخول والتوغل في ثنايا الأرجوزة ما حوته من نكات علمية ومعاني عن الأجواء العلمية الأحسائية خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري:

ناظم الأرجوزة:

الشيخ محمد بن عبد الله الرمضان «1150 - 1240 هـ »:

الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن بن الشيخ علي بن الشيخ عبد النبي آل الشيخ رمضان الخزاعي الأحسائي.

من علماء الأحساء الأجلاء، والفقهاء الفضلاء، ولد في الأحساء حدود سنة 1150 هـ ، بدأ دراسته العلمية على والده ثم اتجه إلى النجف فدرس على العلامة الشهير الشيخ محمد مهدي النراقي، صاحب «جامع السعادات»، وغيره، كان زعيماً دينياً وأستاذاً للفقه واللغة في الأحساء.

هاجر إلى البحرين في أحداث سنة 1208 هـ ، وأقام بقرية «سلماباد»، إلى حين وفاته سنة 1240 هـ .

له عدد من المؤلفات الأدبية:

1 - خير الوصية: وهي قصيدة وعظيمة مشتملة على الواجبات والمستحبات وعدد من التعاليم الإسلامية، كتبها وصية لأبنه الشهيد الشيخ علي بن الشيخ محمد الرمضان.

2 - ديوان شعر.

وتوفي في بلاد مهجره قرية «سَلْمَاباد» في البحرين سنة 1240 هـ ، وقبره معروف فيها [2] .

ناسخ الأرجوزة:

الشيخ أحمد بن حسين آل حرز «القرن الثالث عشر».

أحمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن آل حرز البحراني أصلا الأحسائي مولداً، نشأ وترعرع في الأحساء وفيها تلقى علومه على يد أعلامها منهم:

الشيخ محمد بن عبد الله آل رمضان، ولعله أخذ على غيره من أعلام تلك المرحلة العلمية في الأحساء كالشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي الذي كان يدير مدرسة بمدينة الهفوف في نفس المنطقة التي أخذ فيها على الشيخ الرمضان، كما لا يبد استفادته على العديد من أعلام تلك الفترة في الفقه والأصول والعقائد وغيرها من المعارف العلمية.

كان حياً سنة 1208 هـ ، حيث تتلمذ على الشيخ الرمضان والتي يعتقد أنها مرحلة الشباب للشيخ الحرز لذا يتوقع أنه عاش إلى قريب منتصف القرن الثالث عشر الهجري.

أجواء الأرجوزة:

تمت الأرجوزة الشعرية في أجواء علمية في مدرسة آل رمضان والتي كان مركزها بحي الكوت في فريق «حي» الحواويج التابع لفريق النجاجير [3] ، وهي المنطقة التي كان يسكنها آل رمضان وآل حرز في تلك الفترة، وتعد مركز مدينة الهفوف من الأحساء، والتي يحتمل إن نشاطها كمدرسة دينية بدأ في العقود الأخيرة من القرن الثاني عشر واستمر إلى سنة 1208 هـ ، حيث تم إغلاق المدرسة برحيل مؤسسها إلى البحرين.

وفي هذه المدرسة درس على الشيخ الرمضان عدد من أعلام الأحساء منهم الشيخ أحمد بن حاجي محمد بن مال الله الصفار «ت 1266 هـ »، والشيخ الشهيد علي بن الشيخ محمد بن عبد الله الرمضان «ت 1266 هـ »، إضافة إلى الشيخ أحمد بن حسين الحرز [4] ، إلا أن المدرسة كانت أوسع وأكبر من ذلك حيث ضمت عدد من طلاب العلم في الأحساء، فقد شهدت المنطقة في تلك الحقبة حراك علمي ضم عدد كبير من طلاب العلم.

والذي يظهر من خلال الأرجوزة إن الشيخ الرمضان يستخدم الإثارة العلمية بين طلابه عبر الألغاز النحوية واللغوية وإشعال روح المنافسة بينهم وشحذ همتهم نحو العلم والمعرفة.

محتوى الأرجوزة:

تتألف الأرجوزة من 26 بيت من الشعر، وقد قسمها الشاعر إلى فصول أربعة:

أولاً: المقدمة: الحمد والشكر لله وعلى آله وصحبه:

وتأخذ المقدمة من القصيدة «8» أبيات، بدأها الشاعر الرمضان مبيناً فضل الله بتعليم الإنسان ما لم يعلم، ثم بين أهمية العقل في والدين في حياة الإنسان فبهم عرف سبيل المحجة وطريق الصواب، بعدها شرع بالصلاة على النبي الخاتم سيد البشر، وعلى آله الأخيار وصحبه الذين تابعوه وآزروه في دعوته ودينه.

ثانياً: أهميه العلم وفضله:

وتتكون من «6» أبيات، تكلم فيها عن العلم وأنه خير ما ادخره المرء لنفسه وأنه يصعد به إلى عالي الرتب، والمنازل العالية، وأن خير ما يكسبه الإنسان ويفوز به هو العلم والمعرفة ولا قيمة لشيء آخر دونه وتصبح الحياة هباء، فإذا فقد العلم فهو الخسران المبين وإن نال المرء مال سبأ، ولخص فضل العلم لطلابه ومريديه في عدة نقاط:

1 - خير مكسب لذوي الألباب تذاكر العلوم ومناقشتها بين طلاب العلم.

2 - التوغل في العلوم والبحث فيها وفرز المشكل من الواضح واختيار العلوم الراجحة منها.

3 - إن العلم أشبه بحلبة سباق يجري فيه أصحاب الفكر والعقول النيرة بحثاً عن الجديد والمفيد.

4 - إن العلم هو المعيار في فرز الحب الجيد من الرديء والطالب الجاد من الخامل.

ثالثاً: أهمية العربية واللغز النحوي:

وعدد أبياتها «8» أبيات، وهو الذي من أجله تم إنشاء الأرجوزة بدأها بذكر أهمية النحو والعلوم العربية، مؤكداً أنها المفتاح والجسر لفهم واستيعاب العلوم المختلفة، وذلك من خلال فهم المعاني وإدراك المضامين العلمية فيها لذا لا يستغني عنها أي طالب علم بغض النظر عن مجاله وتخصصه.

ولعل من أبرز مصاديق أهمية تعلم العلوم العربية من نحوها وصرفها فهم معاني القرآن الكريم الذي هو كتاب الله ودستور المسلمين جميعاً، واللغة العربية هي المفتاح والشفرة التي من خلالها يمكن الوقوف والدخول على عتبة القرآن الكريم، والتشرف بإدراك معانيه وفهم تعاليم السماء.

وأخيراً دخل في اللغز النحوي الذي أراد من خلاله أن يختبر طلابه ويعرف مدى هضمهم لما سبق أن أعطاهم من دروس نحوية وصرفيه استمرت لشهور عديدة.

رابعاً: الخاتمة:

وتتألف من «4» أبيات، وقد خصها بحث الطلاب على التأمل في السؤال ومن ثم الجواب، وسينال من ظفر به لديه أعلى الرتب والمنزلة، وأنه يأمل فيهم الخير الكثير وأن الحل لا يعسر على أحدٍ منهم، ووصف طلابه بالبدور المزهرة والعقول النيرة.

نص الأبيات [5] :


الحمد لله العلي الأقدم
معلم الإنسان ما لم يعلم

هادي العباد سبيل الرشاد
وموصل الكل إلى السداد

العقل والدين الحنيف الواضح
مبين الحسن من القبائح

فليس للخلق عليه حجة
إذ قد هداهم سبل المحجة

ثم الصلاة والسلام السامي
على النبي المصطفى التهامي

خير نبيٌ جاء في خير الأمم
وبشخصه الرسل الأهنا ختم

وآله الذين ربنا حتم
ودادهم قاطبة على الأمم

وصحبه الذين وازوه
حقاً وفي الأقوال تابعوه

وبعد فالعلم رفيع الرتب
أحسن مذخور وخير مطلب

من فاته العلم فعمره هبا
لو نال في  دنياه ما نال سبا

وخير كسب لذوي الألباب
تذاكر العلوم للطلاب

والبحث عن مشكلها والواضح
والفحص عن موجبها والراجح

وشد ظهر الفكر بالنطاق
وجريه في حلبة السباقِ

كي يعرف الذكي والبليدِ
ومجبل الضعف والحديدِ

فالنحو من أعلا العلومِ قدراً
إذ صار مفتاحاً لها وجسراً

بدونه لا تدرك المعاني
ولا يبينُ غامض القرآن

وإنني سائلكم يا أسرتي
ويا أحبابي وأهل ملتي

ويا نحاة العصر والأواني
ويا سراة الدهر والزمانِ

عن اسم استعمل بلا تركيبٍ
مجرور خر بلا تكذيبٍ

ومقتضى عامله رفع ظهر
والنصب في باطنه قد استقر

في حالة واحدة قد اقتضى
ثلاثة الأوجه يا أهل الرضا

وكلها على القياسِ جارية
من الشذوذ والندور عارية

فهل فتى يفض لي ختامه
أرفع ما بين الملا مقامه

هداكم الرحمن للصوابِ
ودلكم ربي على الجوابِ

ظننت ما من أحد لا يعرفه
في نقده صرفاً لمن لا يصرفه

ما فيكم غمر ولا مغرورُ
يا هؤلاء أنتم البدورُ


 

[1]  أعلام الأحساء، مصدر سابق: 57.

[2]  للتفصيل راجع أعلام هجر من الماضين والمعاصرين، السيد هاشم بن محمد الشخص، مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية: قم، الطبعة الأولى: 1430 هـ - 2009م: 4/410-466.

[3]  مدرسة آل أبي خميس الفدغمي بالهفوف، حسين بن جواد الرمضان، مجلة الساحل، العدد الخامس والأربعون - السنة الرابعة عشرة - ربيع 2020م: 19.

[4]  مدرسة آل أبي خميس الفدغمي بالهفوف، مصدر سابق: 20.

[5]  أعلام الأحساء، مصدر سابق: 58، وقد حصلنا على صورة اللغز النحوي من الصديق العزيز الأستاذ المؤرخ حسين بن الحاج جواد الرمضان.