تفاصيل الحياة القديمة في مجتمع القطيف..
وثيقة تميط اللثام عن المقابر الملحقة بالمساجد في جزيرة تاروت وغيرها
قد تكشف الوثائق التاريخية عن أبعاد أخرى مختلفة عن موضوعها، بين أيدينا وثيقة لا تتعدى صفحة واحدة من حيث الحجم، ومن حيث الموضوع لاتتخطى أنها خطاب يستهدف مطلبا بسيطا من محكمة الأوقاف والمواريث بالقطيف.
في شهر جمادى الأولى للعام 1398 هـ أراد سكان حي الحوامي بجزيرة تاروت توسيع مسجدهم الصغير، وكانت مقبرة صغيرة أمام محراب المسجد تعيق هذا التوسع، فقصدوا المرحوم الحاج محمد صالح الصفار، فوعدهم خيرا، وراسل قاضي الأوقاف «في ذلك الوقت» الشيخ عبد الحميد الخطي، بكلام ذكر له بأن الإمام الشيخ عبد الله المعتوق منع الناس من الدفن فيها، فرد عليه الشيخ عبد الحميد بتفاصيل تكشف عنه تفاصيل نص الوثيقة.
دعونا نضع نص الوثيقة، وصورتها، لنذهب بعد ذلك للدلائل التي توحي بها هذه الوثيقة
نص الوثيقة
بسم الله الرحمن الرحيم
سيحضى شرفا بلثم أنامل صاحب الفضيلة العلامة الشيخ عبد الحميد الخطي أيده الله تعالى
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بما أنه يوجد في بلادنا تاروت القطيف مسجد يسمى مسجد باش لامه وهو مسجد قديم قد تداعت حيطانه لطول مدته في الأزمان الماضية
وفي جواره من جهة الغرب أرض يدفن فيها الأطفال الذين يموتون في حين الولادة والذين يسقطون من بطون أمهاتهم قبل إكمال شهور الولادة
فلما تشرفت بلادنا تاروت بمجيء الإمام العالم الرباني الشيخ عبد الله المعتوق أعلى الله مقامه منع دفن هؤلاء الأطفال فيها لوجود مسبلات للمؤمنين في هذه البلاد ولعلمه عليه الرحمة أن هذه ما كانت من المسبلات فتركت من عام 1341 هـ إلى حال التاريخ لا يدفن فيها أطفال.
وقد تبرعت أخيار من المؤمنين كثر الله أمثالهم بهدم هذا المسجد وضم هذه الأرض إليه لعلمهم أن هذه الأرض إذا لم تضم وتضاف إليه ربما يتسلط عليها مما يؤذي المسجد إلى شيء يضر به فهل يجوز ضمها إليه أفيدونا لا عدمنا وجودكم كثر الله أمثالكم آمين 27 ج1 عام 1398
مخلصكم
محمد صالح الفردان الصفار
بسم الله الرحمن الرحيم
ج/ إذا ثبت أن الحجة المقدس الشيخ عبد الله المعتوق منع من الدفن في هذه الأرض لكونها غير مسبلة بوجه شرعي ولم تكن ملكا لأحد ولا وقفا على جهة معينة غير المسجد إذا ثبت كل ذلك جاز ضمها إلى المسجد بإذن من الحاكم الشرعي.
29/5 /1398 ه
عبد الحميد الخطي
التوقيع
وبعد سؤالي عن الأرض من ذوي الخبرة من أهل وممن اعتمد عليه ووقوفي على الأرض لا أرى مانعا من ضمها إلى المسجد وقد أذنت.
3/6 /1398 هـ
التوقيع
انتهى نص الوثيقة.
من أجل سهولة الاستيعاب، قمنا بتفكيك العناصر التي تطرحها الوثيقة، وتسليط الضوء عليها، وشرح ما يمكن شرحه، وإضافة ما لدينا من إضافة إلى هذا العنصر بطريقة سهلة الاستيعاب.
أ/ ظاهرة وجود المقابر الصغيرة في المساجد في «جزيرة تاروت، القطيف، البحرين»:
سلطت هذه الوثيقة على أمر هام يدعو إلى المزيد من الأسئلة عن صورة المجتمع المحلي في واحة الخليج العربي، ظاهرة بناء المقابر في مقدمة المساجد هي ظاهرة واضحة في جزيرة تاروت بجميع مناطقها، يوجد بها مساجد نجد خلفها مقابر صغيرة «وهذه المساجد شاهدتها «شخصيا» بأم عيني وربما وثقت ذلك ببعض الصور» ومن هذه المساجد التالي:
1/ مسجد باشلامه والذي يسمى حاليا مسجد الإمام المنتظر عجل الله فرجه.
2/ مسجد الشيخ محمد بالسنابس، وقد استغلت هذه الأرض لخدمات الموتى، ولم تضم إلى المسجد، ويبدو أن الناس وزيادة منهم في الاحتياط، تورعوا عن ضم المقبرة إلى أرض المسجد، وكذلك سعة المكان، وحاجة منطقة السنابس إلى مغتسل قريب من منازلهم دعاهم للابتعاد عن هذه خطوة الضم إلى المسجد.
3/ مسجد الشيخ يوسف بالخارجية، بالقرب من مركز شرطة تاروت السابق.
4/ مسجد الشيخ علا بالخارجية، والذي يقع بالقرب من مدرسة الساحل المتوسطة بتاروت، وكلاهما يصلي فيهما فضيلة الشيخ عبد الرسول البيابي.. وفقه الله تعالى.
5/ مسجد الخضر بمنطقة الرفيعة، والذي يصلي فيه فضيلة الشيخ عبد الكريم الحبيل، وفي الواقع فأنا لم أشاهد المقبرة عند مسجد الخضر، لكن نقل لي من أثق فيه أن ثمة مقبرة صغيرة كانت موجودة خلف الجامع المذكور.
الجامع المشترك بين هذه المقابر الملحقة بالمساجد، أنها عادة ما تؤسس جهة المحراب للمسجد، إضافة إلى أنها تكون موجودة بسور بسيط، وبدون أبواب أو نوافذ، كما أنها تخلو بالكامل من البناء عليها، وعادة ما تكون شواهد القبور عبارة عن قطعة من الحجر، وأغلب القبور تكون شواهدها من الكرب المجلوب من النخيل، كما أنه من نافل القول إنها تستخدم لدفن السقوط من أبناء المسلمين.
ب/ مسجد باشلامه
من العناصر الهامة في هذه الوثيقة هو مسجد باشلامه، يقع هذا المسجد بفريق الحوامي بمنطقة تاروت، بجزيرة تاروت، أما لماذا سمي بهذا الاسم؟ ومن الذي أطلق عليه هذا الاسم؟، وماذا يعني هذا الاسم؟ فلا نعرف لماذا سمي المسجد باسم «باشلامه»، ولا نعرف من الذي أطلق هذا الاسم، ولا نعرف ماذا تعني كلمة باش لامه، لكن يبدو لنا أن الأرض التي وقع عليها المسجد تسمى باشلامه، وأطلق على المسجد كملحق بهذه المحلة، وهو مسجد صغير ولكنه من المساجد القديمة، إذ لا يعلم متى تأسس هذا المسجد، لكن ما هو معلوم لدينا هو أن مجموعة من المؤمنين بادروا بإعادة بناءه في العام 1437 هـ ج، وقد غير القائمون على شؤون المسجد مسماه أكثر من مرة، واستقروا أخيرا على اسم مسجد الإمام المنتظر عجل الله فرجه «سنرفق صورا موضحة لذلك»، والأرض المخصصة للسقوط من أولاد المسلمين، هي أرض صغيرة، وقعت ملاصقة لمحراب المسجد.. ولم يكن مسجد باشلامه هو المسجد الوحيد، الذي احتوى على مقبرة «مسبلة» لدفن السقوط.
ج/ الحاج محمد صالح الصفار
كان لافتا أسلوب كاتب هذا الخطاب الذي أقنع بأسلوبه العلمي والمقنع والمهذب قاضي الأوقاف والمواريث بإجازة البناء على هذه المقبرة، وسلط الضوء على منع العلامة الشيخ عبد الله المعتوق الدفن في هذه المقابر، فليس من الغريب صدور ذلك من المرحوم الحاج محمد صالح الصفار فهو بالإضافة إلى امتلاكه القدرة العلمية في المذهب الشيعي، وممارسته تعليم القرآن لفترة من الزمن، وقدرته على التعامل مع هذه القضايا الشائكة، علما أن المذهب الشيعي لا يفضل بناء المساجد على المقابر، وإذا أجاز ذلك فيضعها في خانة المكروه، فما نجح فيه هذا المربي، ومسجد باشلامه، لم تنجح فيه مساجد كثيرة، وظلت المقابر مهجورة إلى جانب المساجد لا يمكن الاستفادة منها.
د/ العلامة الشيخ عبد الله المعتوق، والقاضي الشيخ عبد الحميد الخطي
جاء في نص الوثيقة أن العلامة الشيخ عبد الله المعتوق، منذ العام 1341 هج منع الدفن في هذه المقابر، لاعتبارات منها وجود مسبلات «مقابر» عامة للمسلمين.
وفي الواقع أن العالم الرباني الشيخ عبد الله المعتوق آل درويش، جاء في وقت عصيب، تمر فيه جزيرة تاروت والقطيف بكاملها، وكان بمثابة الهبة الإلهية للمجتمع التاروتي، فقد جهد لترتيب قضايا ومسائل هذا المجتمع، فقد قام بجهود حثيثة لإيجاد مسبلات يدفن فيها الناس، فاليوم يوجد في جزيرة تاروت ثلاث مسبلات، أو مقابر كبيرة، ومنها جاء منعه من الدفن بجانب المساجد، ورتب مسألة التسحير في شهر رمضان، وأمور كثيرة، ففضل العلامة ابن معتوق على أبناء جزيرة تاروت كبير جدا.. لا يمكن حصره في هذه العجالة.
الملفت للنظر أيضا، والذي تكشف عنه الوثيقة هو احترام القاضي الشيخ عبد الحميد لما سنه أو عمله العلامة الشيخ عبد الله المعتوق.
وهذا ليس بمستغرب على القاضي الفذ الشيخ القاضي المرحوم الشيخ عبد الحميد الخطي، فلقد سعى فضيلته لترتيب أمور القضاء في القطيف وهو الأمر التي كشفت عنه الوثيقة وهو أن القاضي المرحوم الشيخ عبد الحميد الخطى أوجد له وكلاء ومساعدين في كل منطقة ومنها جزيرة تاروت ذوي خبرة ودراية يخبروه بالحقائق والوقائع الصحيحة كل في منطقته، والدليل على ذلك، تعقيب فضيلته بالقول «وبعد سؤالي عن الأرض من ذوي الخبرة، وممن اعتمد عليهم، ووقوفي على الأرض، لا أرى مانعا من ضمها إلى المسجد وقد أذنت» وأرخ ذلك بتاريخ 3/ 6/ 1398 هـ ج أي بعد مرور حوالي أربعة أيام من موافقته الأولى في تاريخ 29/ 5/ 1398 هـ ج
وكل ما قدمناه يطرح سؤالا هاما، وهو ما هي الظروف الصعبة التي دعت الناس في ذلك الوقت إلى تخصيص مقابر صغيرة إلى جانب بيوتهم؟؟
هذا نتركه إلى وقت آخر إلى باحثين آخرين يستطيعون الإجابة على هذا السؤال الهام.