قصص السعودي حسين السنونة ترى المجتمع عبر عدسة مكبرة
ربما اعتاد القارئ العربي للأدب الخليجي على نصوص“محافظة”نوعا ما، لا من حيث بنائها وتشكلها الفني، بل في المواضيع التي تتطرق إليها، والتابوهات التي تخشى دخولها، لكن هناك كتاب خليجيون بددوا هذه الصورة النمطية من خلال اقتحام مواضيع شائكة وعبر نقد لاذع وتعرية لمواطن الخلل في المجتمع، وغيرها من القضايا.
الكتابة لدى القاص السعودي حسين السنونة هي زراعة ألغام في التربة الراكدة، ما تلبث أن تنفجر سريعا بمجرد أن يتحسسها القارئ بعينيه. وفي مجموعته القصصية الجديدة“ثرثرة فوق المحراب”، الصادرة عن مؤسسة“الانتشار العربي”، ينتقد بشراسة الكثير من الوضعيات الجامدة والتقاليد والموروثات البالية في بلاده، ويقتحم خطوطا حمراء متعددة، على صعيد الأفكار والموضوعات والدعوات الجريئة التي يطرحها، لكنه ربما لا يحرص على القدر ذاته من التمرد على صعيد التثوير الفني الجمالي.
على غير المعتاد في الإبداع السعودي، الذي تعكس أدبياته في معظمها صورة متناسقة لمجتمع محافظ، تأتي مجموعة السنونة لتحمل رؤية يمكن وصفها بأنها مشاكسة للسائد والمستقر، على كل المستويات: الدينية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، وغيرها، ما دفع مؤلفها إلى عنونتها بالثرثرة، أي الكلام العفوي غير الملتزم بهندسة وانتظام.
وهذه الفضفضة الصراخية التلقائية، هي بدورها خلف المحراب، أي خارج مفهوم السيطرة الدينية، وفتاوى الشيوخ الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على بشر خلقهم الله أحرارا، وخارج هيمنة القوى السلطوية والرجعية بكل مؤسساتها وأطيافها وأتباعها.
مفارقة إشكالية
يأتي اهتمام القاص بما يحمله في أوعية ذهنه ووعيه ومعرفته من منظومة انتقادات حادة، وأفكار طليعية تحررية، ليوجه مسار التجربة برمتها، من أول سطر حتى النهاية، ومن العنوان الرئيسي مرورا بعناوين القصص القصيرة، وقصيرة القصيرة“زواج فقير”،“ترانيم مواطن متسكع”،“أنا وأمي والمحرمات”،“أجساد ثملة”،“قطط، حشرات، نمل”،“مثلث من ورق”،“ثرثرة سجين”، وغيرها.
هذا الاهتمام المفرط، حد الاستحواذ، يخلق مفارقة إشكالية على امتداد صفحات المجموعة التي تناهز المئة، هي أن الدعوات الكثيرة إلى التغيير والتجاوز وهدم الأبنية الهشة وإقامة دعائم الإنسان المتطور والمجتمع الناضج تكاد تكون غاية بحد ذاتها في القصص، شبه الواقعية، على حساب إنجاز هذه الحرية، وتحقيقها، فنيا وجماليا، بأبجديات سردية مغايرة، وتخييلات تكسر نمطية الأحداث الجاري التعبير عنها بآليات أقرب إلى النقل الرصدي، الذي لا يخلو من رأي وتحليل.
ويراهن الكاتب على الكادرات القصيرة المتقطعة، والمشاهد السينمائية السريعة المتلاحقة، والصور الملتقطة عن قرب للشخصيات والمواقف، ويتنقل من حالة إلى أخرى بعيون الراصد الساخر، ولغة الشعر الشفيفة، المدعومة في بعض الأحيان بقصائد معبرة.
وهي اجتهادات تحتسب للقاص الباحث في القاموس القريب عن لغة مراوغة تخصه، لكنه دائما يتفقد ما ومنْ حوله بمنطق الراوي العليم، صاحب القناعات والأحكام القاطعة ووجهات النظر المحددة سلفا، بغض النظر عن التفاعلية والتنامي الدرامي، ما يجعل القصص بمثابة قراءات ذاتية أحادية الجانب للحاضر السعودي، الذي لا يرضى عن الكثير من ملابساته وجوانبه.
ما يشفع لسيادة اليقين الأنوي وانتفاء الحس التشككي في بلورة الحبكة القصصية بحنكة أن المؤلف يتخذ من الإبداع منصة لإطلاق جملة من الاعتراضات واللاءات في مواجهة أرض يراها متحجرة، وعقول يحسبها لا تقل صلابة، لكنها هي التي تدير، وتحكم، وتتحكم.
ولعله يتعمد الوصول إلى القارئ من أقصر الطرق، بل ويقصد المباشرة أحيانا، من أجل إهالة التراب على كل ما هو مرفوض، بوضوح، وإجلال كل ما هو تحرري، وإكباره، حتى لو بلغ الشطط، مثل ذلك المطر، الذي انهمر بغزارة، بمصاحبة البرق، والرعد، والريح، في قصته“أجساد ثملة”، ليساند المرأة الأربعينية العذراء، التي انطلقت حافية القدمين، عارية الرأس، تبحث عمن يهدئ روعها، وخوفها، وشكوكها في هذا العالم الذي تسوده ذكورية تصيح بها: ارجعي إلى بيتك، هل أنت مجنونة لتخرجي سافرة.
ومثلما أن الأفكار غير المحدودة بسقف هي بارود الانفجار في تجربة السنونة، فإنه يجعل هذا المطر الرامز إلى الانطلاق والحرية والحقوق النسوية بديلا عن المذاهب الفنية، التي يسخر منها هي الأخرى، متمنيا الاكتفاء بالمذهب المطري، في زمن لم يعد فيه عاقل: من الجميل أن يخرج المؤمن ليصلي ركعتين تحت المطر، يقرأ الكتب السماوية. أين الشعراء لينثروا قصيدة مطرية؟ والرسامون ليخلقوا لوحة تعود للمذهب المطري، عوض السريالية والتجريدية وغيرهما.
سيول انتقادية
الكاتب اقتحم خطوطا حمراء متعددة على صعيد الأفكار والموضوعات «لوحة للفنان محمود فهمي عبود»
ترتدي الأنا المتكلمة، غير المنفصمة عن المؤلف في حقيقة الأمر، إهاب ذلك المطر على طول الخط، بل إنها تتحول إلى سيول تجلد الأرض، ففي كل قصة مجموعة من المواقف والمشاهد والشخوص، تنتج عنها أحداث وحوارات واسترجاعات ذاتية واعترافات بوحية، والمحصلة دائما أوضاع بائسة عقيمة، وحياة جافة، يجري تشريحها، وتعريتها، وانتقادها.
بغير أن يجهد المرء نفسه، فالالتفات يمينا ويسارا في هذا المناخ المحبط، يفتح الرؤية على الجد الذي يحارب المستنيرين والمثقفين، ويصفع ابنه على وجهه لمجرد أنه رآه يحمل بعض الكتب: سافل، غير ناضج، بعثي كافر، أيها الملحد.
وعلى الأب الذي عاش النكبات العربية الحديثة: حرب الخليج، احتلال العراق، وينتظر نكبات غيرها: الدمار، الدماء، تكسر القلم، تمزق الورق، انسكاب الحبر“أكره أنني عربي”. يمرر الراوي عدسته على التفاصيل الصغيرة، ليبرزها جلية فادحة، فمن بيروقراطية الموظفين وتكاسلهم في المصالح الحكومية إلى صراعات اللحية والشارب الساذجة بين المتمسحين بالدين ومدعي الثقافة والعلمانية.
ومن القهر السياسي وسجناء الرأي في“ثرثرة سجين”إلى تجاوزات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحق المواطنين: من وكلك؟ هل من حقك أن تلعن الآخرين؟ تحكم على الآخرين كما تشاء؟ إن كنت أنا علمانيا، فأنا أحب خالقي، أحترم ديني.
ويتجول الراوي كذلك من مشاكل البطالة والفقر والعنوسة إلى سطحية مجتمع القشور والكماليات، حيث البشر والقطط والحشرات والنمل الذين يجمعهم واقع واحد ووضع استهلاكي واحد، وحيث العلماء الذين لا يخافون الله وهم يدبجون الفتاوى ويكنزون الذهب والفضة.
في كل قصة مجموعة من المواقف والمشاهد والشخوص، تنتج عنها أحداث واسترجاعات واعترافات
ومع اتساع الرؤية تزداد القتامة، ويظهر التجار الذين لا يفقهون في الدين، والمسؤولون النوم على الكراسي حتى أصابهم الباسور، والمثقفون الذين يكورون أجسادهم من بين مقعد الكراسي ومؤخرة المسؤولين، لينكسر القلم ويتناثر الورق.
هكذا، فإن الكلمات كلها تغتصب وتولي، والأديان تقتل الإنسانية باسم الدين، والأحزاب السياسية والحركات الأيديولوجية التي تصرخ في النهار بالحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، في الليل تقتل وتسجن وتعربد وتلقي قشورها ليتبدى عريها وعشقها للدم والتكفير: اللعنة على من يحتكر صكوك الغفران والجنة والنار.
يتخذ الكاتب أسلوب الفكاهة والسخرية في بعض القصص لفضح الأزمات وإبرازها من خلال التهكم والمفارقات، كما في قصة“وهج الخيال”، التي يقدم فيها تصورا ساذجا لحل المشكلات عن طريق شرب الحليب الدافئ والاستغراق الحلمي في التخيلات والأمنيات، ما يعطي إشارة عكسية إلى أن الظلام حالك، وأن الحلول الحقيقية لا تزال مستعصية، في الوقت الراهن على الأقل.