المرأة ثيمة للحداثة المجتمعية في قصص حسن علي البطران القصيرة جدًا
شكلت المرأة عبر العصور المختلفة عنصراً بارزاً في الأدب العربي بكافة أجناسه. كانت القصيدة في العصر الجاهلي لا تخلو من مقدمة غزلية، تتغنى بجمال المرأة، وما ترمز إليه من أمان نفسي للرجل، وما تحمله من معاني الخصب، والارتباط بالأرض، والديار، والشرف الرفيع، والعفة، لكن الصورة الأكثر شيوعاً للمرأة في الثقافة الجاهلية، أو على الأقل ما تسرب إلينا منها، ظل يرتكز إلى شخصانية الجسد، والفتنة، ولم يتجرّد من ذلك كثيراً نحو الروح والعاطفة والمعنى.
ظلت هذه الصورة النمطية للمرأة تسيطر على المجتمعات العربية القديمة إلى أن جاء الدين الإسلامي، فتغير المنظور العام للمرأة، ودورها في المجتمع، وأصبحت تشارك الرجل في الدفاع عن الدين، والأرض، ونشر الرسالة، وتنشئة الأجيال. كما أصبحت تتمتع بحق الرعاية الاجتماعية، والحماية الأسرية، مع تكليفها بما يكلّف به الرجل من عبادات، ومتطلبات؛ مما أعلى من شأنها، ودفعها للاجتهاد في إثبات وجودها، ودورها في بناء المجتمع، وتحقيق الذات.
ولمعت على الساحة الأدبية العربية العديد من الكاتبات والشاعرات والفقيهات، أمثال: رابعة العدوية «ولدت عام 714م وتوفيت عام 816م»، وولادة بنت المستكفي «توفيت في قرطبة عام 1095م» وعائشة الباعونية «ولدت في دمشق عام 1460م»، ثم نازك الملائكة في العصر الحديث «توفيت عام 2007م»، وغيرهن العديد من النساء الرائدات في شتى المجالات الأدبية والعلمية؛ مما عزز مكانة المرأة، وأبرز دورها في تقدم المجتمع.
كان كتاب قاسم أمين «المرأة الجديدة»، وكتاب منصور فهمي «أحوال المرأة في الإسلام» محاولةً للخروج بالمرأة العربية من إطار الشريعة الإسلامية، والعادات الشرقية إلى مجاراة الحداثة التي نادت بالحرية في السلوك واللباس والاعتقاد، وكانت هذه الدعوات تنال الدعم من دُعاة العولمة، والانفتاح الحضاري في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ حيث عقدت العديد من المؤتمرات النسوية كمؤتمر بكين، وما تلاه من معاهدات ملزمة، برفع كافة أشكال التمييز عن المرأة، ومساواتها بالرجل، مثل معاهدة «السيداء» وغيرها. إلا أن معظم القاعدة النسائية المثقفة في العالم العربي اختارت الحفاظ على التصور الإسلامي للمرأة، لما وجدت فيه من تكامل، وشمول، ووسطية، وانسجام مع شؤون المرأة الاجتماعية، والاقتصادية في العالم العربي.
واكب الكاتب العربي مجريات الحداثة، مصوراً انعكاساتها على المجتمع العربي بكافة فئاته، ومنتهجاً ما أفرزته من فنون أدبية مستجدة، كالقصة القصيرة جداً التي انبثقت من رحم الحداثة، وتقنياتها في التواصل الاجتماعي. فبرز العديد من الكتاب الذين جسدوا المشاهد الواقية للأحداث الاجتماعية في قوالب سردية تختزل العبارات، وتكثفها في مشهد درامي سردي مليء بالغرابة والإدهاش والرمزية، ملتزمين بعناصر القصة القصيرة جداً التي اتفق عليها المنظرون في هذا المجال.
ومن أبرز الكتاب العرب الذين انتهجوا القصة القصيرة جداً، وتخصصوا فيها، الكاتب السعودي حسن علي البطران الذي تعددت إصداراته في هذا المجال لتتجاوز تسعة إصدارات، منها: «نزف من تحت الرمال»، و«بعد منتصف الليل»، و«ناهدات ديسمبر»، و«دانة»، و«سماوات لا تنبت أشجاراً»، وغيرها.
تمحورت العديد من قصص البطران القصيرة جداً حول قضايا المرأة العربية، وانعكاسات الحداثة عليها؛ فصور ما تواجهه من تحديات في صراعها مع المستجدات التي تنقلها منقيود العادات والتقاليد الخانقة، إلى عوالم الحرية الخادعة المنفلتة باسم الحداثة، وما تجره عليها من ويلات مستقبلية، ومن الشواهد على ذلك، هذه القصة القصيرة جداً:
«ريش
أرسلت إليه عقداً، بدأ بغلي الماء في الإبريق، هربت الحمامة من القفص، اغتالها قناص ماهر..!».
تضمنت عتبة العنوان في هذه القصة القصيرة جداً، دلالة رمزية عميقة عبرت عن فحوى القصة، ومضمونها، فالريش مصدر قوة الحمامة، ومنبع حريتها، وقد رمز البطران للمرأة في هذه القصة بالحمامة التي قدمت لزوجها عقداً دلالة على الاهتمام، فما كان منه إلا أن قابلها بالعنف، والسيطرة محاولاً نتف ريشها للحد من حريتها؛ مما دفعها إلى الهروب من قفصه بحثاً عن الحرية، لكنها وقعت في شرك ذلك القناص الماهر الذي اغتالها، ودمرها.
قصة قصيرة جداً لا تتجاوز ثلاث عبارات، حملت مضامين سردية تجسد واقعاً متكاملاً لصراع المرأة مع الواقع، والمستجدات الحداثية، فالمرأة التي رمز البطران إليها بالحمامة، حاولت الخروج من قيود الرجل وسيطرته، لتقع ضحية رجل آخر، يسلبها كل مقومات الحياة باسم الحرية والحداثة.
استطاع البطران في هذه القصة القصيرة جداً توظيف عناصر البلاغة، ومقومات اللغة وقوالبها المجازية والرمزية، في قالب سردي محكم بعيد الدلالات، مليء بالرمزية والإدهاش، فاتحاً المجال أمام خيال المتلقي لتصور ما يمكن تصوره من أحداث جزئية، لم يفصح عنها الكاتب، تختفي وراء هذا المضمون السردي المكثف، والمختزل، والذي يمكن أن يفتح أفاقا تخيلية واسعة.
ومن الشواهد الأخرى لقضايا المرأة ومواجهاتها مع الحداثة، هذه القصة القصيرة جداً:
«نصف أحمر
يُطرق الباب، يُخفي في حمام صغير داخل غرفة مظلمة هرة سوداء...!
يأمر زوجته التي لا ترفض له طلباً بفتح الباب بمظهر فيه حشمة ووقار، فتحت الباب وجسدها فيه عراء...!
صُعق الطارق...
صرخ هل من رحمة؟!
أكرمها زوجها بصك طلاقها...
- تزوجت من الطارق وأطالت العباءة ولبست الخمار..!!»
تصور هذه القصة القصيرة جداً للبطران، واقعاً اجتماعياً أصبح منتشراً في المجتمعات الفقيرة بشكل كبير؛ حيث قادت نظريات الحداثة بعض الرجال، إلى استخدام النساء كسلعة جسدية لكسب المال، متناسين كرامتها، ومشاعرها، وحقها في صون عفتها، وشرفها؛ فالزوجة في هذه القصة القصيرة جداً، تخرج بمظهر فيه عراء على الرجل الذي طرق بابها بأمر من زوجها الذي لا تستطيع رفض طلبه، لتوقعه في شراكها، وتضطره لدفع المال ثمناً للنجاة، ولكن من حسن حظ هذه المرأة أن الطارق رجل عفيف، خلصها من زوجها الذي طلقها مقابل ما أخذه من الطارق، فيتزوجها ذلك الرجل الطارق لبابها، ويصونها، فينعكس ذلك عليها عفة واحتشاماً، فتطيل عباءتها وترتدي الخمار.
صورتان لذات المرأة في هذه القصة القصيرة جداً، تحمل كل صورة حالة مناقضة تماماً لسابقتها، فهي في النصف الأول من القصة، والذي يحمل رمز عتبة النص الرئيسية «نصف أحمر» حيث ظهرت المرأة بصورتها الوضيعة التي تتعرى لتوقع من طرق الباب، وفي النصف الثاني ظهرت بمظهر الزوجة العفيفة الكاسية، وفي الحالتين كانت تحت تأثير الرجل الذي انعكس تعامله معها على سلوكها.
أبدع البطران في هذه القصة القصيرة جداً في تصوير مشهد درامي حياتي استخدم فيه التكثيف والدلالات الرمزية والسرد المتتابع للأحداث، ليعكس واقعاً مريراً للمرأة في ظل مستجدات الحداثة، التي قادت العديد من الرجال للتنصل من مسؤولياتهم تجاه المرأة، واستغلالها كسلعة لكسب المال. ومن الشواهد أيضاً على قضايا المرأة في قصص البطران القصيرة جداً، هذه القصة:
«ألبسته ظلاماً...!
اتهمته بالظلام. ابتسم، أضاءَ المكان... خجلت من نفسها، لبس كمامته، وفتح الباب خلفه، لحقت به، دموعها تتتابع على وجنتيها».
تعكس هذه القصة القصيرة جداً للبطران، صورة انعدام لغة الحوار بين المرأة والرجل في العديد من الأسر، فالرجل مشغول في مشاغل الحياة التي تبعده عن زوجته، وتغلق أبواب الحوار بينهما؛ مما يدفعها إلى اتهامه بالتقصير في دوره الذي رمز إليه البطران بالظلام، فيكون رد الرجل بممارسة هذا الدور، ولكن لإثبات وجوده فقط، وليس لإصلاح الحال، بدلالة فتح الباب ورائه، والخروج تاركاً المرأة تجري خلفه، ودموعها تتتابع على وجنتيها.
مشهد قصير جداً، يحمل دلالات عميقة استطاع البطران نسجها في هذا السرد المكثف الغني بالإيحاءات الرمزية، وتوظيف التضاد «الظلام والإنارة» وعلامات الترقيم، في نسيج سردي متكامل، يحمل عمقاً دلالياً واضحاً. ومن الشواهد على صراع المرأة العربية مع مستجدات الحداثة في قصص البطران القصيرة جداً هذهِ القصة.
«دفء مختلف
أهيم في شوارع منحدرة في ضواحي بلدات قريبة من باريس، تصاحبني حقيبة يدي الذهبية، وبعض اكسسوارات لا أتذكر من أين اشتريتهاً؛ هل اشتريتها من سوق لابيور، أو سوق دي ريفولي في باريس...؟
بقيت أبحث عن رفيق من جلدتي في تلك البلدات، وجدته في وقت متأخر، لكنه في حضن أنثى شقراء. صعقت...!
عدت إلى وطني الكبير، ووجدت صدوراً متعددة، كلها من بني جلدتي، وقليل منها بلون أسمر!!»
عكست هذه القصة القصيرة جداً للبطران صورة إجمالية لما تعانيه المرأة العربية جراء الحداثة والعولمة، فالمرأة في هذه القصة تسعى في هذا العالم باحثة عن شريك للحياة، وصدر حنون تميل عليه في نهاية يومها المثقل بمتاعب الحياة، وحين وجدته في وقت متأخر من عمرها، صدمت أنه قد وجد له أنثى شقراء أوروبية، فهو لا يحتاجها، كما تحتاجه هي، لأنه وجد البديل، وهذا ما تعانيه بعض النساء العربيات حالياً، خاصة في المغرب العربي الكبير القريب من المدن الأوروبية؛ فالعديد من رجال هذه الدول يترك بنات بلده، ويتزوج من بنات الدول الأوروبية القريبة؛ مما يسبب أزمة عنوسة بين بنات بلدانهم، فتقضي المرأة حياتها باحثة عن شريك من جلدتها فلا تجد، كحال هذه المرأة التي صورها البطران في هذه القصة.
استطاع البطران توظيف عبارات رمزية مختزلة، ومكثفة، نقل من خلالها مشهداً درامياً متكاملاً لقضية مهمة تعاني منها المرأة العربية في عصر العولمة، فتداخل الأسواق التجارية العالمية، جعل هذه المرأة لا تستطيع تمييز المكان الذي اشترت منه اكسسواراتها، هل اشترتها من سوق لا بيور الشعبي ذي الأسعار الرخيصة، أم من سوق دي ريفولي حيث أشهر الماركات العالمية في فرنسا؟!!
فالأسواق اختلطت والعالم اختلط بفعل العولمة، ولم تعد هذه المرأة تستطيع تمييز هويتها، أو طبقتها الاجتماعية؛ ففي حقيبة يدها تختلط السلع الشعبية الرخيصة بالماركات العالمية باهظة الثمن. وعندما عادت لوطنها العربي الكبير، رأت فيه صدوراً كثيرة، كلهم من جلدتها، ولكن وجوههم وملامحهم لم تعد سمراء كحالها في السابق، بل تعددت ألوانها لاختلاط الأجناس، وتغير أنماط الحياة، وتغير العادات والتقاليد بفعل العولمة، وبقيت هي تائهة تبحث عن صدر تلقي رأسها عليه بين هذه الصدور المتعددة المتلونة، لتبقى نهاية الأحداث مفتوحة لتوقعات المتلقي، وخياله الواسع، يستطيع نسج نهاية لهذه القصة القصيرة جداً بما يمليه عليه واقع الأحداث التي يعاصرها.
تلك بعض الشواهد المنتقاة من قصص البطران القصيرة جداً على قضايا المرأة في عصر الحداثة، ولا تزال المرأة التي تشكل لبنة بناء الأسر والمجتمعات الإنسانية، تثير شغف الكتاب في التغلغل إلى أعماق كينونتها، وكشف خفايا انطباعاتها، وما يدور في عالمها من ملابسات عكستها عليها الحداثة، تنعكس على سلوكها، ودورها المهم جداً في بناء الأجيال الجديدة، وتربيتها لتكون امتداداً للأجيال العربية السابقة، فالمرأة هي الركن الأهم للحفاظ على الهوية الوطنية العربية، إذا تمسكت بها، وربت الأبناء على التمسك بها، في عالم يعج بالتغيير، والمستجدات التي أثرت على الهوية الاجتماعية والدينية، وخلطت العالم اقتصادياً واجتماعياً.