«الاصطفاء بين اللغة والقرآن»
الحمد لله وكفى، وسلام على عباد الذين اصطفى.
إن لم يكن الاصطفاء هو أهم المفاهيم في الفكر الديني الإسلامي على الإطلاق، فلا شك أنه من أهمها وأعلاها مرتبة، ولهذا اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا، وتحدث عمه في الكثير من آياته البينات.
كما أن النبي وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما فضلوا على سائر الناس حتى أصبحوا سادات البشر، وأعظمهم مرتبة، وأعلاهم مقاما عند الله سبحانه وتعالى بالاصطفاء، كما سيتضح لنا ذلك من خلال هذا العرض الذي سنحاول أن نسلط الضوء فيه على الاصطفاء ومفهومه بين اللغة العربية والقرآن العظيم.
من المعاني التي تذكرها المعاجم اللغوية للاصطفاء ما يلي:
أولا: الاصطفاء من صفاء يصفو اصطفاءً، بمعني الخالص من الشوائب، كما لو قلنا: سماء صافية، أي غير ملبدة بالغيوم، وماء صاف، أي خالص ونقي، ومرآة صافية...
ثانيا: الاصطفاء أخذ صفوة الشيء.
وهو - بهذا التعريف - قريب من الاختيار، ولكن يفرق عنه بأن الاختيار هو اختيار شيئا من بين الأشياء دون الالتفات إلى خصائصه، وليس بالضرورة أن يكون هو الأفضل بينها، كما لو عرضت عليّ مجموعة من الكتب لا أعرف أيها أفضل من الآخر لأختار منها كتابا واحدا، ففي مثل هذه الحالة أنا سأختار منها كتابا كيفما اتفق، وليس بالضرورة أن يكون اختياري هو الأفضل بينها، بل قد يكون هو الأسوأ.
أما الاصطفاء، فهو - كما قلنا - أخذ صفوة الشيء، أي اختيار شيئا من بين الأشياء باعتباره صفوة تلك الأشياء والأفضل بينها، وذلك أن الصفو نقيض الكدر، وصفوة الشيء خالصه، كما لو قلت: اصطفيتك لصداقتي لوفائك، أي اخترتك لصداقتي لامتيازك على غيرك بالوفاء.
وبهذا المعنى يكون الاصطفاء مقدما على الاختيار، فأنت وفي، ولأنك وفي اخترتك لصداقتي، فكما نلاحظ أن الوفاء صفة متقدمة على الاختيار للصداقة.
وقيل في بيان الفرق بين الاختيار والاصطفاء: «أن اختيارك لشيء أخذك خير ما فيه في الحقيقة، أو خيره عندك، والاصطفاء أخذ ما يصفو منه، ثم كثر حتى استعمل أحدهما موضع الآخر، واستعمل الاصطفاء في ما لا صفو له على الحقيقة».
وإنما استعمل الاصطفاء فيما لا صفو له على الحقيقة بسبب استعماله في موضع الاختيار، وذلك من باب التوسع والمجاز.
ثالثا: التفضيل.
وذلك إذا عدي «بعلى» كما لو قلت: اصطفيتك على القوم، أي فضلتك عليهم.
فالاصطفاء وفق هذه المعاني الثلاثة يعني الصفاء والنقاء والطهارة، واختيار صفوة الشيء، والتقديم والتفضيل.
لا يختلف معنى الاصطفاء في القرآن الكريم عن المعاني التي ذكرناه في اللغة، فهو يطلق «في القرآن» ويراد منه تارة اختيار صفوة الشيء، وتارة التطهير، وأخرى التفضيل، وذلك حسب السياق الذي يرد فيه.
ولا بأس أن نتحدث عن هذه المعاني في القرآن ولو بشيء من الاختصار:
ورد الاصطفاء في بعض الآيات القرآنية الكريمة بمعنى اختيار صفوة الشيء، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في الآية «75» من سورة الحج: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.
فهذه الآية الكريمة تتضمن عدة أمور هي على النحو التالي:
الأول: إن لله رسلا من الملائكة ومن الناس، فالملائكة رسل الله إلى رسله من البشر، فهم يحملون الوحي منه سبحانه وتعالى إلى رسله من البشر، ورسله من البشر يبلغون الرسالة إلى سائر الناس، كما هو الحال في جبرائيل الذي يحمل الوحي من الله عز وجل إلى رسله من البشر.
ثانيا: ﴿مِنَ﴾ في الآية الكريمة للتبعيض، فليس الملائكة كلهم رسل، وليس كل الناس أيضا، وإنما البعض من هؤلاء وهؤلاء.
ثالثا: إن اختيار الرسل من الملائكة ومن الناس ليس متاحا لكل أحد، وإنما هو من اختصاص الله، فهو سبحانه وتعالى - كما في الآية «68» من سورة القصص -: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ وذلك أنه عز وجل - كما في الآية «124» من سورة الأنعام -: ﴿أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾
رابعا: إن هذا الاختيار الإلهي للرسل ليس كيفما اتفق، وإنما هو بالاصطفاء واختيار الأصلح، أي أن الاصطفاء سابق على الاختيار، فالله عز وجل يختار صفوة خلقه ليجعلهم رسلا لبقية خلقه.
فهؤلاء الرسل إنما اختارهم الله عز وجل لصفائهم وخلوصهم من الشوائب، وليس أي صفاء وخلوص، بل قمة الصفاء والخلوص من الشوائب.
وهذا الخلوص والصفاء متحقق فيهم على مستوى العقل والقلب والجسم معا، فالمصطفى للرسالة من قبل الله عز وجل لديه:
1 - صفاء عقلي كامل، ليكون مستعدا لتلقي الوحي وتبليغه.
2 - صفاء قلبي كامل، يمكّنه من تجسيد الرسالة وتطبيقها، وعدم الانحراف عنها يمينا أو شمالا، وهو ما نعبر عنه بالاستقامة على الصراط المستقيم، أو العصمة في تطبيق الشريعة.
3 - صفاء بدني، بمعنى سلامة البدن من المنفرات التي قد تجعل الآخرين ينفرون منه ومن رسالته.
فالاصطفاء للرسالة إنما هو لمن كان صافيا على مستوى العقل والقلب والبدن، فمن كان صافيا على هذه المستويات الثلاثة كل الصفاء والنقاء والطهارة، اختاره الله لرسالته.
خامسا: قوله تبارك وتعالى في ختام الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ هو تعليل لاصطفاء الرسل وإرسالهم إلى الناس.
والمعنى: إن الله عز وجل بصير بأمور الناس، سميع لسؤالهم الفطري في الحاجة إلى الهداية إليه جل وعلا، ولهذا جعل لهم طرقا للهداية إليه، تتلخص في ما يلي:
1 - الهداية العقلية:
بمعنى أن هناك رابطة عقلية بين وجود الكون والمكون، وذلك استنادا إلى «قانون العلية» الذي ينص على وجوب إسناد الأثر إلى المؤثر، فالإنسان يدرك بعقله أن الشيء لا يمكن أن يوجد نفسه بنفسه، بل لابد له من موجد خارجي عنه يكون هو السبب في وجوده، وبما أن الكون حادث، فالإنسان يدرك بعقله أنه لابد له من محدث وموجد وهو الله رب العالمين.
2 - الهداية الفطرية:
فالله عز وجل فطر الناس على معرفته والاهتداء إليه، كما يقول تعالى في الآية «30» من سورة الروم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
فكما أن الإنسان يشعر - من ذاته - بالجوع والعطش والفرح والحزن... وما شابه ذلك من أمور، كذلك يشعر - من ذاته وداخل نفسه أيضا - بوجود الله عز وجل.
ولكن الهداية العقلية والفطرية غير كافيتين في إيصال الإنسان إلى الحق، فالعقل قد يضل ويخطأ الطريق إلى الله عز وجل، فيتصوره متمثلا في الشمس، أو القمر، أو الكواكب، أو حتى الأصنام والأوثان... كما أن الفطرة أيضا قد تتأثر بالمؤثرات الخارجية فتنحرف عن الحق، كما أشار النبي ﷺ إلى ذلك في قوله ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»
وأيضا فإن الهداية العقلية والفطرية هداية إجمالية وليست تفصيله، وكذلك في الدين أمور تشريعية لا يمكن للإنسان أن يهتدي إليها عن طريق العقل أو الفطرة لأنها خارج اختصاصهما، كما هو الحال في الصلاة والصوم وغيرهما من التشريعات التي لا يمكن الاهتداء إليها عن هذين الطريقين، وعليه فإن الهداية الفطرية والعقلية غير كافيتين في إيصال الإنسان إلى ربه.
3 - هداية الرسل والأنبياء:
ولقصور العقل والفطرة وعدم كفايتهما في هداية الإنسان إلى الله هداية كاملة، كانت هناك الهداية عن طريق الرسل والأنبياء، الذين يتم اصطفاؤهم من قبل الله فيحملهم رسالته ليبلغوها إلى الناس.
إن الإنسان بحاجة إلى الهداية الكاملة إلى ربه، والعقل والفطرة قاصران عن ذلك، ولهذا اختار الله لهم رسلا يهدونهم للتي هي أقوم، وهذا الاختيار إنما هو لصفوة الناس من الناس، وهذا هو معنى ورود الاصطفاء في القرآن بمعنى أخذ صفوة الشيء، أي اختيار صفوة الناس على مستوى العقل والقلب والبدن ليكونوا سفراء بين الله وخلقه.
يطلق الاصطفاء في القرآن الكريم في بعض الموارد ويراد منه التفضيل، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في الآية 247 من سورة البقرة: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
فقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ معناه فضله عليكم، حيث زاده بسطة في العلم والجسم.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه موسى بن عمران في الآية 144 من سورة الأعراف: ﴿قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
والمعنى: إني فضلتك على الناس برسالاتي وكلامي.
والاصطفاء من قبل الله لبعض خلقه، وتفضيله لهم على غيرهم، لا يكون جزافا، وإنما لوجود مؤهلات ذاتية عند ذلك الشخص المصطفى تجعله مستحقا لذلك الاصطفاء والتفضيل.
فالله سبحانه وتعالى إنما اصطفى نبيه موسى وفضله على غيره برسالته وكلامه جل وعلا لوجود مؤهلات ذاتية عند موسى الكليم جعلته جديرا بهذا الاصطفاء والتفضيل، مستحقا له كل الاستحقاق.
وهذا أمر ندركه بالبداهة العقلية، فإذا كنا نحن معاشر البشر لا نفضل أحدا على أحد إلا وفق موازين معينه، فما بالك إذا كان هذا الاصطفاء والتفضيل من قبل الحكيم المطلق، الذي يضع الأمور في مواضعها، ويستحيل أن يصدر منه أي فعل عبثي تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا الإدراك العقلي المحض، أيضا تؤكده النصوص الإسلامية الشريفة، ففي الحديث عن الإمام أبي عبد الله الصادق كما في الجزء الأول ص 74 من علل الشرائع للشيخ الصدوق: «أوحى الله عز وجل إلى موسى : أتدري لم اصطفيتك لكلامي دون خلقي؟.
فقال: لا. يا رب.
فقال: إني قلبت عبادي ظهرا لبطن فلم أجد فيهم أحدا أذل لي منك نفسا، يا موسى إنك إذا صليت وضعت خديك على التراب».
وفي نفس الكتاب والجزء والصفحة أيضا عن الإمام أبي عبد الله الصادق من جملة حديث: «... أوحى الله عز وجل إليه: يا موسى، أتدري لم اصطفيتك لوحيي وكلامي دون خلقي؟
فقال: لا علم لي يا رب.
فقال: يا موسى، إني اطلعت إلى خلقي اطلاعه فلم أجد في خلقي أشد تواضعا لي منك، فمن ثم خصصتك بوحيي وكلامي من بين خلقي.
قال الإمام الصادق : وكان موسى إذا صلى لم ينفتل حتى يلصق خده الأيمن بالأرض والأيسر».
إذن فاصطفاء موسى الكليم وتفضيله إنما كان لأنه أسلم لله تعالى، وأعني بالإسلام - هنا - التسليم الكامل، الذي هو لبّ العبودية الحقة للحق عز وجل.
وكذلك الحال في سائر الرسل والأنبياء والأوصياء، إنما تم اصطفاؤهم من قبل الله عز وجل لتسليمهم الكامل له، وخضوعهم بحضرته، وإيمانهم به، وتطهيرهم أنفسهم من كل الشوائب التي تحجبهم عنه سبحانه وتعالى.
القسم الثالث - التطهير:
وذلك باعتبار أن الاصطفاء - كما سبق وبينا - من الصفاء، والصفو، والتصفية، والتنقية، وكل هذه المفردات تعني التزكية والتطهير، فالصفو نقيض الكدر، وصفوة كل شيء خالصه.
فالله يصطفي بعض عباده بمعنى أنه سبحانه وتعالى يصفيهم ويطهرهم ويزكيهم، لما وجده سبحانه وتعالى فيهم من القابليات الكبيرة لهذا اللطف الإلهي الكبير الذي يفعله بهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
في القرآن المجيد آية كريمة جامعة لهذه المعاني الثلاثة التي ذكرناها للاصطفاء ومعناه، وهي «أخذ صفوة الشيء، والتفضيل، والتطهير» وهذه الآية الكريمة هي قوله سبحانه وتعالى في الآية 42 من سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾.
والذي نستفيده من هذه الآية الكريمة عدة أمور هي كما يلي:
أولا: إن مريم امرأة محدثة، تكلمها الملائكة.
وهذا يدل على أن تحديث الملائكة ليس مختصا بالأنبياء، ولا يلزم منه أن يكون المحدث - بالضرورة - نبيا أو رسولا، فكما أن الملائكة تحدث الأنبياء كذلك حدثت غيرهم.
وعليه فحين نقول أن الأئمة الطاهرين وفاطمة سيدة نساء العالمين تحدثهم الملائكة، فليس معنى ذلك أننا ندعي أنهم أنبياء، كما يحاول أن يشنع علينا البعض بذلك، فلا توجد ملازمة لا عقلية ولا شرعية بين تحديث الملائكة وضرورة أن يكون المحدث نبيا، كما أننا لم نقل بهذا الأمر من عند أنفسنا، وإنما لما ثبت لدينا من أخبار ثبتت صحتها عندنا وإن لم تثبت عند غيرنا، كما أن هذا القول ليس من اختصاص الشيعة، بل هو مما أجمعت عليه الأمة الإسلامية قاطبة، فكلهم يجمعون على أن هناك أناسا حدثتهم الملائكة من غير أن يكونوا أنبياء، وإنما وقع الاختلاف بين المسلمين فقط في تحديد أولئك القوم المحدثين، ففي الوقت الذي قال فيه الشيعة أن الأئمة محدثون، قال السنة أن الخليفة الثاني محدث.
فالقضية هي محل إجماع المسلمين، ولهذا لا يصح التشنيع على فريق دون فريق.
ثانيا: إن الآية الكريمة تناولت الاصطفاء بأقسامه الثلاثة التي تحدثنا عنها بشيء من التفصيل.
فقوله تعالى لمريم : ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ أي اختارها، وتقبلها بقبول حسن، كونها صفوة نساء زمانها.
وقوله سبحانه: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ أي عصمها بعصمته، فطهرها من القاذورات المادية، فجعلها بتولا لا تحيض، فهي دائما في طهر، كما طهرها من القاذورات المعنوية، فهي امرأة معصومة لا ترتكب ذنبا، ولا تمارس معصية، لا كبيرة ولا صغيرها، لا عمدا ولا سهوا، فهي مصطفاة بالعصمة والتطهير.
وأما قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ فقد أشرنا إلى أن الاصطفاء إذا عدي بعلى أفاد التفضيل، وهذا يعني أن الله عز وجل فضل مريم على نساء العالمين.
وهذا التفضيل والتقديم ليس من جميع الجهات، وإنما هو فقط من جهة أنها حملت بالمسيح من غير أن يمسسها بشر.
أما ما قيل أنها مصطفاة أي مفضلة على نساء زمانها، فإطلاق الآية يأباه ويدفعه، كما أن الأحاديث الوارد عن المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تؤكد ما قلناه من أنها مقدمة على نساء العالمين فقط من جهة أنها حملت بالمسيح من غير أن يمسسها بشر.
ومن بين هذه الأحاديث ما في المجلد الثالث ص 214 من تفسير الميزان عنهم صلوات الله عليهم: «اصطفاها مرتين، أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل، فاصطفاها بذلك على نساء العالمين».
أما تطهيرها وقنوتها وتحديث الملائكة لها، فكله ليس مما اختصت به، بل كما كان لها كان لغيرها أيضا، كما هو الحال في فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، ولهذا ورد في الحديث كما في الجزء الأول ص 216 من علل الشرائع عن الإمام الصادق : «إنما سميت فاطمة محدثة، لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها».
وإذا كان اصطفاء مريم وتفضيلها على نساء العالمين فقط من جهة كونها حملت من غير أن يمسسها بشر، فإن السيدة الزهراء اصطفاها الله عز وجل وفضلها على نساء العالمين على الإطلاق ومن جميع الجهات.