آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

في اللغة والسياسة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

اللغة والسياسة مفهومان بدأ حضورهما منذ وقت مبكر، وارتبط وجودهما بالاجتماع الإنساني. لكنهما شأنهما شأن معظم المفاهيم التي ارتبطت بالإنسان، هما نتاح التاريخ، بما يعني تاريخيتهما وخضوعهما لقانون الحركة والتعاقب والتغير.

اللغة، نظام له وظيفة وغاية محددتان، هما التعبير والتواصل. وتعتمد اللغة على وسائل معينة كالإيماء والحركة واللسان لبلوغ أهدافها. وكان الإغريق من أوائل الذين أبدوا اهتماماً واسعاً بموضوعها، حيث ناقش الفيلسوف أفلاطون علاقة الأشياء بالأسماء، وأن الاسم هو انعكاس عن المسمى/ وهو مشتق من مكوناته وتركيباته. وأفلاطون بتعريفه هذا، يؤكد تاريخية اللغة وعدم سكونها.

أما السياسة فإنها في مدلولاتها الأولية عنت فن الممكن، كما ربطت بشكل مباشر، بالسلوك الإنساني من قبل الحاكم تجاه الجمهور، ولذلك اعتبرت دراستها جزءاً من دراسة علم الأخلاق. لكنها مع التطور التاريخي، وبروز الإمبراطوريات والممالك والدول، باتت مرتبطة بالحكم، فغدا مفهومها فن إدارة الحكم، وانتقلت من مطلب أخلاقي إلى منهج براجماتي، عماده المنفعة. والسياسة كما اللغة تتغير وظائفها ومفرداتها من مرحلة إلى أخرى. فما لدينا الآن من أشكال وتعابير سياسية هي بالتأكيد مختلفة عما كانت عليه الأمور في بداية التطور الإنساني، وما مرت به البشرية من تغييرات كبيرة وهائلة في النظم السياسية من عبودية إلى إقطاع، وثورات صناعية وعلاقات تعاقدية.

ويمكن القول، إن اللغة بمختلف تجلياتها، الفنية والأدبية، كانت باستمرار أداة في خدمة السياسة. وهي في هذه الحالة، تستخدم في صيغة المفعول به. فكل فعل سياسي يحتاج إلى مفردات ولغة ليعبر بها عن ذاته. والتبشير بفكرة سياسية يستخدم فن اللغة بكل طرقها وتشبعاتها للإقناع بتلك الفكرة. وفي هذا السياق، يحضر دور اللغة في السياسة، توصيفاً وتوجيهاً.

وما وصل لنا من أفكار سياسية، تشكلت منذ أقدم العصور، واستمرت في التجدد والتغير حتى يومنا هذا، حصلنا عليه بلغات مكتوبة، ولم تكن من وسيلة لإدراكنا له دون ذلك.

الأديان السماوية، بدورها اعتمدت أيضاً اللغة كوسيلة أساسية للتبشير بمبادئها ونشر فضائلها. وكانت بداية القرآن الكريم آية اقرأ. والقرآن الكريم، حمل آيات مختلفة، دعت إلى الحوار الهادئ مع الخصم كما في قوله تعالى: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» سورة آل عمران الآية 159 وفي آية أخرى: «وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم»..

وهناك آيات كريمة تحض على القتال والصبر. قال تعالى: «إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان» سورة الأنفال آيه 12 في الآيات الكريمة السالفة نلحظ أن التوجيه الإلهي، قد ارتبط باللحظة التاريخية التي نزلت فيها الآية الكريمة. فلحظة السلم والتبشير، كما رأينا مختلفة تماماً عن لحظة المواجهة والحرب.

وليس من شك في أن اللغة التي تستخدمها السياسة الآن ليست اللغة التي سادت بالعصور الوسطى. فالنظام السياسي القديم استند إلى نظرية الحق الإلهي. هذا الأمر تغير بشكل جذري بعد الثورة الفرنسية حيث نص دستورها على أن الناس يولدون أحراراً متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات.

في العصر الحديث لدينا في الوطن العربي أمثلة كثيرة على كيفية استخدام الساسة للغة لتحقيق أهدافهم. فمفردات الحماية والوصاية والانتداب التي صدرت عن عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى أقرت هيمنة بريطانيا وفرنسا على أجزاء كبيرة من الوطن العربي ومنحت الاحتلال أغطية إنسانية، حين أوحت بأن الاستعمار سينقل المجتمعات العربية من حال التخلف لحال التقدم والرقي. في المقابل كانت الحركة المناهضة للاستعمار تستعمل مفردات خاصة، كالحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية والجهاد.

لكن هذه القراءة يجب ألا تؤخذ على علاتها. فاللغة شأن لا يستهان به وفي أحيان كثيرة تقود اللغة الفعل السياسي حين تكون سابقة عليه. فالتبشير بالأفكار السياسية كالحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي غالباً ما تكون سابقة على الفعل السياسي. بمعنى آخر إن غلبة السياسي على اللغوي هي حالة نسبية. والصحيح أن الواقع التاريخي هو الذي يحدد غلبة أحدهم على الآخر. لكن حضور كل منهما دائم ومستمر طالما بقيت الحياة رحبة وفسيحة.