حصاد عقدين
بعد أقل من شهرين من هذا التاريخ، يكون قد انقضى عقدان من هذا القرن مر خلالهما العالم بأحداث جسام، وكان نصيب الوطن العربي من الأحداث التي وقعت خلالهما، كبيراً. وكان العامان الأخيران هما الأكثر وطأة على البشرية، نتيجة تفشي وباء كورونا، وحصده أكثر من مليون وربع المليون من البشر، وتسببه في كوارث اقتصادية واجتماعية.
لم يكن واقع العالم العربي بهيجاً قبل ولوج القرن الواحد والعشرين. فلقد بقيت تركة الاحتلال الأجنبي الذي استمر قروناً طويلة، جاثمة على معظم أقطاره. وكانت المواجهة الحضارية والاقتصادية والسياسية بيننا وبين الأمم المتقدمة غير متكافئة، حيث سبقتنا في هذه المضامير بأرقام فلكية.
لقد أدى واقع التجزئة، وغياب التكامل والتنسيق بين أقطار الوطن العربي، في جميع المستويات، إلى خلق معضلات كبرى حدت من النمو واللحاق بركب التقدم البشري. وقد ضاعف من مأساوية هذا الواقع، النمو السريع في عدد السكان قياساً إلى ضآلة النمو في ناتج الدخل القومي.
قبل دخول هذا القرن، أكدت المؤشرات أن نسبة الأمية تجاوزت 70%، كما أكدت انعدام العلاقة بين الثراء والتعليم والإنتاجية الاقتصادية، حيث سار كل منها في خط مستقل بمعزل عن العوامل الأخرى. وتسببت هجرة الأدمغة العربية المكثفة للخارج، خاصة من الأقطار الفقيرة، ذات الكثافة السكانية العالية في حرمان الأمة من كفاءاتها.
وكانت معدلات النمو الاقتصادي محكومة بعوامل معوقة. فقد استمر النقص في القدرة على البحث والتخطيط في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإدارة والتكنولوجيا، والبراعة في اختيار الأولويات، والتكنولوجيات التي تقود إلى أنماط أفضل في توزيع الموارد.
ومنذ انفضاض معارك الاستقلال، عانت بعض الأنظمة العربية أزمة شرعية؛ كونها في معظمها مارست سلطتها بقوة الأمر الواقع من دون أساس يقوم عليه بنيان سياسي يكفل سهولة الحركة ويسرها. وكان من نتائج ذلك، عجزها عن مواجهة التحديات القومية المصيرية.
ففي ظل ذلك الواقع المتردي، اختمرت في البنيان الاجتماعي للأمة، ردود فعل غاضبة وعنيفة، واستمد الشعب العربي أساليبه الدفاعية من ماضيه، في وجه التغريب. فكانت ردة فعل الشعب المسحوق هي المشاركة في حفلات مرعبة مخضبة بالدم، بعد أن خُذل في نخبه التي حملت ألوية التغيير. فكان الرجوع إلى الماضي، والغياب في التاريخ هما طابع المرحلة التي عصفت بالمنطقة، بشكل واضح، منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم.
وحين أطل هذا القرن، كان الشعب العربي مفعماً بآمال الخروج من نفق أزماته، لكن الأمور اتجهت سريعاً بشكل لم يتوقعه أكثر الناس تشاؤماً.
فقد افتتح القرن الجديد بأحداث جسام، بدأت بأحداث سبتمبر/أيلول عام 2001، حين هاجم تنظيم القاعدة برجي مركز التجارة الدولي بمدينة نيويورك، ومقر البنتاجون في واشنطن. أشعلت هذه العملية، ما أطلقت عليه إدارة الرئيس بوش، الحرب العالمية على الإرهاب. وكان من أبرز نتائجها احتلال العراق؛ البلد الذي يملك أكبر مخزون استراتيجي عسكري على مستوى الوطن العربي، ليكون من أوائل ضحايا الأحادية القطبية، التي برزت إثر تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الاشتراكية.
على الصعيد العالمي، تراجعت دولة الرفاه، نتيجة سيطرة اليمين على الحكم في معظم الحكومات بالغرب، وارتفعت معدلات الفقر والعنصرية واللامساواة.
كما اشتد التنافس بين الولايات المتحدة والصين. وشهدنا انفجار الثورة الصناعية الرابعة، بتعاظم دور المعلومات والاتصالات، والتوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي. وعلى الصعيد البيئي عانى العالم اشتداد الاحتباس الحراري، وازدياد مخاطر التلوث والتصحر والفيضانات، جراء ارتفاع منسوب المحيطات والبحار.
ومع بداية العقد الثاني من هذا القرن، شهد الوطن العربي تغيرات عميقة. فالحركة الاحتجاجية التي اندلعت شرارتها الأولى في تونس ما لبثت أن امتدت إلى مصر وسوريا وليبيا واليمن. وكان المؤمل أن تكون خطوة حقيقية على طريق تحديث المجتمع العربي، وتحقيق الحرية والعدالة، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى حروب أهلية، ومعول هدم للوحدة الوطنية، وتفتيت المفتت، وبروز النزعات الطائفية والقبلية والإثنية، وتدخلات عسكرية خارجية. وكانت محطتها الأخيرة، في الجزائر والسودان عام 2019، لتمتد أصداؤها بتحركات شعبية إلى العراق ولبنان، ولا تشي المؤشرات حتى الآن، بأنها ستضع الأمة على السكة الصحيحة.
لن يكون للأمة خلاص إلا باختيار طريق النهوض، والولوج بقوة إلى التنمية. والشرط الأساس لتحقيق ذلك، هو التنسيق والتكامل بين العرب بما يخدم مصالحهم ويقي بلدانهم من التدخلات الخارجية، ويحمي أمنهم الوطني والقومي. فهل حان موعد الاستفادة من دروس التاريخ؟