آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

القهوة على الحلوة والمرة

قيس آل مهنا *

انا المحبوبة السمرا....... واجلى في الفناجين

وعود الهند لي عطر..... وذكري شاع في الصين [1] 

بيتان قد يجهل الكثير من قائلهما ولكنهما قطعا من روائع الشعر العربي، فكم تغنى بهما محبو القهوة وسمارها.

القهوة ذلك المشروب الاسمر اللون ذو الرائحة النفاذة والمحببة، والمتخذ من حبات البن المحمصة، قد اختلف على بداياته ومن اين جيء به وكيف ظهر، ولكن اتفق الكل واجمع على أهميته وعدم الاستغناء عنه في معظم الأحيان.

نشربها علي الحلوة والمرة، مقولة يتداولها الكثيرون من محبي القهوة ومحتسيها، وربما يرددها البعض دون التعمق في فهمها كأي عبارة عابرة تمر بالذهن دون التأمل في مضمونها.

ولكن لو دققنا في مغزاها فربما تحتمل عدة احتمالات ومنها:

1 - أن القهوة من المشروبات المفضلة والمحببة لدى الكثيرين إن لم نقل الكل، فهم يجتمعون حولها ويسمرون بها فتحلو مع رشفاتها الاحاديث، فتكون قد شربت مرة ولكن قد حلي معها الكلام.

2 - أن بعض الاشخاص يحب القهوة محلاة بقليل من السكر أو مصحوبة ببعض كقطع الحلوى والتمر، فيغير مذاقها وطعمها من المر إلي الحلو والمستساغ فيكون قد شربت حلوة ومرة.

3 - أن القهوة اضحت في هذه الأيام رمزا للقاءات والتجمعات حتي صارت المقاهي منتشرة في معظم الامكنة وتقدم القهوة بأشكال وألوان ومذاقات مختلفة تتجانس مع رغبات محبيها وطالبيها فأصبحت هذه الامكنة وبفضل القهوة أمكنة يحلو معها التجمع والمؤانسة وتبادل أحاديث الود والمحبة، والتي لم تكن كذلك في بعض الحقب من الزمن، حيث منعت من الشرب وتم اغلاق المقاهي التي تعدها، ولكنها صارت في عصرنا هذا من الضروريات.

حيث أن بعض الشعوب والمناطق تعتبر المقاهي هي المتنفس الوحيد لكثير من الناس وتشكل ظاهرة اجتماعية لا مفر من تقبلها والتعايش بها ومعها كما في مصر على سبيل المثال، فتقول احدى الكاتبات: «لا يعرفون الذين ينددون بالمقاهي وروادها أنها تؤدي خدمات اجتماعية، وتختلف باختلاف الدرجة التعليمية والمسكن والدخل الشهري وغير ذلك، وقد اثبت البحث أن 90% من عائلات الطبقة الفقيرة في القاهرة والإسكندرية تقيم في غرفة واحدة تستعمل في النوم والأكل والطهو... ويستحيل أن تستخدم في استقبال الضيوف، ومن هنا كان لابد لهذه العائلات من مقاه يقابل فيها الرجال ضيوفهم واصدقائهم» [2] .

4 - على المرة، إذ غالبا ما تقدم أيضا في الاتراح والأحزان وفي التعزية وعند حضور المآتم، والتي يغلب عليها الطعم المر والقهوة الصرفة.

5 - وعلى المرة، أن من عادات بعض الشعوب طرح الفنجان على الأرض وعدم تناوله حتى يلبى له طلبه الذي أتى منه، وكأنما هو محفز على النصرة والتعاون في السراء والضراء.

6 - وعلى المرة ايضا لأن أولئك الأوائل ذاقوا وتكبدوا ذلك المنع الذي صاحب ظهور القهوة والفتاوى بتحريمها.

حتى أن البعض صار لا يفصح عن شربها خيفة أن يوشى به فيذهب ضحية ذلك التعسف.

ومن قصص المنع ما حدث في العام 917 هـ  1511م حين منع الباشا المملوكي خير بك المعمار تداولها وشربها.

ثم ما بين العامين 1525 و1527 أيضا حين حرم تداولها وبيعها القاضي محمد ابن العراق بسبب التردي الأخلاقي في المقاهي [3] .

وفي ما يقارب العام 1580م تولى الحكم في «تركيا» وزير نشط كان يخشى أن تصبح المقاهي موطنا للفتن فجدد الأوامر بمنعها وجعل عقوبة المخالفين الجلد أول مرة، فان تكررت المخالفة كان جزاء العائدين وضعهم ف أكياس جلدية تخاط عليهم، ثم اغراقهم في مياه البسفور [4] !!

روائع الشعر في القهوة:

نظم الشعراء ابياتا ومقطوعات وقصائد مختلفة كلها تشيد وتمجد بالقهوة واحتسائها، واحيانا في ذم المناوئين لها وغالبا ما يكون بأسلوب ظريف وغير فاحش تغلب عليه الدعابة والمزاح في كثير من الأحيان.

قال بعض الفضلاء:

رب سوداء في الكؤوس تجلت... تهب الروح نفحة من حياة

عندما ذقتها تحققت منها..... أن ماء الحياة في الظلمات

ولبعضهم أيضا:

هي سوداء وبيضاء معنى.... يحسد المسك عندها الكافور

مثل نون العيون يحسبه بنا س سوادا فإنما هو نور

وقول بعضهم:

ما يهضم الزاد سوى قهوة.... فقربوها نحونا واقربوا

ولا تخافوا الإثم في شربها... فالله قد قال كلوا واشربوا

وقال بعضهم في ذكر فوائد القهوة:

عليك بشرب البن في كل ساعة.... ففي شربها يا صاح خمس فوائد

نشاط واهباط واذهاب بلغم.... ونور لأبصار وعون لعابد

أما في ذم القهوة وشاربيها فيقول أحدهم:

أقول لأصحابي عن القهوة انتهوا.... ولا تجلسوا في مجلس هي فيه

فليست بمكروه ولا محرم..... ولكن غدت مشروب كل سفيه

وقد يتعدى مدح القهوة ووصفها لوصف صاحب المقهى نفسه وذكر حالته اليومية ومعاناته مع زبائنه كما فعل الشاعر أحمد الصافي النجفي حيث قال:

هب صبحا من كراه فمضى..... راكضا من بيته للعمل

حاكيا في عدوه سيارة.... أوقدت بالطمع المشتعل

دخل المقهى وألقى نظرا..... حاسبا كم حله من رجل

فإذا مر على قهوته.... عابر طار له من جذل

آملا أن يدخل المقهى فإن.... راح أعياه ضياع الأمل

يحسب الزائر فلسا داخلا.... كيسه يرجو به أن يعتلي

إلى آخر القصيد التي سطرت الظرف والدعابة في أبياتها [5] .

ومسك الختام صارت القهوة في عصرنا رمزا حضاريا يتفنن أهل الصنعة وأصحاب الذوق في اظهارها بصنوف واشكال مختلفة من تزيين المقاهي والتفنن في مسمياتها واختيار أنواع القهوة واشكال الأقداح وغيرها، مما يغري بالولوج لعالم الرشفة الملهمة.

[1]  مامية الرومي، أدبيات الشاي والقهوة، محمد طاهر بن عبد القادر الكردي المكي، ص96

[2]  ادبيات الشاي والقهوة، محمد طاهر بن عبد القادر المكي، ص17

[3]  القهوة والأدب، جيرار جورج لومير، ترجمة د. مي محمود، ص23-24

[4]  أدبيات الشاي والقهوة، محمد طاهر بن عبد القادر الكردي المكي، ص14

[5]  مصدر سابق. ص21