آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:33 م

الثقافة بين الواقعي والافتراضي

زينب البحراني *

لا شك أننا محظوظون بالعيش في عصرٍ وفَّرت فيه التكنولوجيا مزيدًا من الفرص للتواصُل مع الثقافة ومُختلف أشكال الإبداع، فاختزلَت المسافات وقللت القيود وألغت مُعظم الحدود، ورحَّب الفضاء الإلكتروني الواسع بالإعلان عن كل نشاطٍ فكري وكل موهبة دون حاجة إلى وساطات، وصار المجهود الفردي وحده قادرًا على لفت انتباه المُهتمين بالشأن الثقافي والاستحواذ على اهتمامهم، ولم تعُد الفعاليات الثقافية محدودة بمكانها وزمانها المُحددين؛ بل صار من الممكن مُشاهدة أحداث فعالية ثقافية تُقام في بلدٍ بعيد عبر شاشات هواتفنا المحمولة بينما نجلس في منازلنا، وغدا الاحتفاظ بذكرى تلك الأحداث مصورة كاملة بعد انتهائها أمرًا يسيرًا، وأمسى التواصُل المُباشر بين المثقفين من مفكرين ومُبدعين من بلدان مُختلفة أكثر سهولة صوتًا وصورة بينما كل منهم في بلده، ما ساهم في نشر أخبار النشاط الثقافي بين البلدان، وأثرى حركة تبادل المعرفة الثقافية والإنسانية بين الشعوب.

لكن كل تلك الفُرص التي قدمها العالم الافتراضي مازالت غير قادرة على إزاحة تلك القيمة العالية للنشاط الثقافي في العالم الواقعي عن عرشها، ومازال للنشاطات الفعلية التي تدور على مسرح التواصُل الحي المُباشر وجهًا لوجه مع الجماهير دون حاجز الشاشة الشفافة يمتاز بهيبة أكبر وقيمة أعلى في التأثير وتلقي رجع الصدى من المُتفاعلين مع هذا النشاط، مازال للإعلان عن أمسية شعرية أو قصصية تُقام في أحد المراكز الثقافية المعروفة هيبة أكبر عند السامعين من الإعلان عن نفس الأمسية مُقامة عبر التواصُل الإلكتروني، ومازال الإعلان عن إقامة مسرحية، أو أمسية سينمائية، أو ليلة موسيقية على خشبة أحد المسارح المرموقة يُسبِغ أهمية وتقديرًا أعلى للمادة المُقدمة مُقارنة بتقديمها عبر شاشة الشبكة الإلكترونية وحسب.

ثمة جانبٌ آخر يرتبط بالاحتياجات النفسية للمُتلقي الذي يتم إعداد تلك المادة على أمل أن يتفاعل معها، وبهذا التفاعل يتحقق هدف عرضها وتقديمها، إذ إن شريحة واسعة من المُتلقين قد يجتذبهم حضور تلك النشاطات أو الفعاليات من باب الترويح عن النفس وكسر نمطية الأجواء المُعتادة في حياتهم اليومية، وحين لا يتحقق هذا النوع من الإشباع النفسي بالحضور في مكان مُختلف سينصرفون عن احتمال مُتابعة بثها عبر أجهزة حواسيبهم أو هواتفهم المحمولة التي اعتادوا عليها حتى ملَّت أبصارهم وسئمَت أرواحهم.

وبهذا يظل العالم الافتراضي بكل ما يُقدمه من تسهيلات عُنصرًا مُسانِدًا للعالم الواقعي على الصعيد الثقافي؛ لا بديلاً عنه، إلا في الظروف الاستثنائية التي تتطلب التزامًا بزمنٍ طويل من التباعُد الاجتماعي كالجوائح والأزمات.

كاتبة وقاصة سعودية - الدمام