جغرافيا الواقع وهندسة التشكيل
قراءة في «ثرثرة خلف المحراب»
تضم هذه المجموعة للقاص حسين السنونة عشرين قصة قصيرة تتفاوت في الحجم ما بين قصة تستغرق ما يقرب من صفحتين وأخرى تتجاوز ثلاث صفحات، تحمل عناوين تتراوح بين الجمل التامة المفيدة والألفاظ المتاضايفة والمفردات الدالة على أنواع من الحشرات والجمل المحذوفة مبتدآتها، وهي عتبات تنطوي عللى علامات تتوزّع بين معانٍ متكاثرةٍ متعلقةٍ بانماط بشرية جسداً وصفاتٍ وطباعاً وأفعالاً وخطاباتٍ وجماداتٍ، محسوساتٍ ومعنوياتٍ، وأخرى مكانيةً أو زمانيةً وهي مؤشرات دالّة على حراك لغوي وكثافة دلالية.
في القصة الأولى التي سميت باسمها المجموعة يستكشف الكاتب العالم الداخلي ومجاهله مختفيةً وراء الحركة الخارجية التي تطفو على الشاشة الخارجية، فيصور إيقاع الزمن النفسي البطيء في تقاطعه مع الزمن الحسابي؛ حيث التلظّي على جمر الانتظار، وهنا تتبدّى المفارقة بين عالم الروح الذي يفقد حضوره في أتون الانشغال بأمور وتفاصيل دنيوية تفقده جوهر المعنى؛ هذه المفارقة التي تختزل الموقف الإنساني في لحظة التماهي مع انشغالات تطغى على ماعداها إبان قسوة الزمن وبُطء عقارب الساعة.
هندسة البنية ومنطق التشكيل
يبدأ الكاتب قصته في رسم لوحة كونية تستشرف مشهد الغياب وفضاء المكان بمختلف عناصره وتلتقط المعنى الخفي للغياب في اختلاجاته الإنسانية ممثلة في لحظة الوداع؛ إذلا يبدو الوصف المشهدي في بدايات القصة محايدا؛ بل يتراءى مثقلا بالدلالة، حيث تتفاعل العناصر الثلاثة: الزمان والمكان والإنسان: أما المكان فيتبدى بأشكاله المختلفة بين جدل الانفتاح والانغلاق، اللوحة الكونية لحظة الغروب بأجرامها السماوية وظجدل النور والظلمة وحركة الريح ومشهد الشجر ثم المحلات التجارية المغلقة التي يجلس بعض أصحابها أمامها أو يختفون داخلها، مشهد بانورامي تتفاعل فيه ثلاثية وجودية،
وإذا كان من المعروف أن أبجديات التشكيل في القصة القصيرة بوصفها فنا سرديتا تنهض على مقولة «القصة القصيرة الجيدة هي القصة محذوفة المقدمة» فإنه يمكنني القول إن هذا المشهد ليس مقدمة بل هو من صميم البنية العضوية للقصة القصيرة، وأن الانتقال من الخارج التي تستمدّ منه الصورة المشهدية عناصرها بتوصيفه في هذه القصة لا ينفصل عن النص، فلانتقال من هذا العالم المنظور بعناصره الثلاثة خارج المسجد يفترض أنه أمر جوهري في تطور الحدث الرئيس لأنه انتقال من عالم إلى آخر مختلف، ومن انفتاح الفضاء بموجوداته الملموسة إلى انغلاق المكان بروحانياته وشعائره فلا تنبتّ العلاقة بينهما لأن ما يدور في خلد الراوي يظل مشدودا إليه حيث يتقرّى هذا العالم ويرسم خريطته عبر الحديث عن تقدّم الصف الأول الذي يحمل لونا من ألوان التراتب لا ينفصل عن آركيولوجيا المجتمع في الخارج شبكته العلائقية، وأن المفارقة التي تكمن في الانسحاب الجسدي من الفضاء الخارجي الدنيوي إلى رحاب الداخل الشعائري الذي يفترض فيه الانفصال عن الاهتمامات البراجماتية الخارجية يظل معلقا في باطنه بالخارج ومشاغله عبر انتظار الإمام الذي لم يأت بعد، وكأن الخارج يحتجزه بعيدا عن أجواء المسجد، وهذا التعالق بن المادي والروحي يعبر عن الصراع والمغالبة بين قطبين يتقاسمان النفس البشرية، فخصوصية التجربة التي تعبر عن التوتر والقلق الذي يعاني منه الراوي تنسحب لتشمل التجربة البشرية برُمّتها، فالراوي يجوس خلال عالمين ويسلط عدسته عليهما في رصد لمعالم النبض الداخلي للإنسان في صراعه بين المادة والروح، فهو كما وصفه بعض المفكرين «قبضة من طين الأرض ونفخة من روح السماء»
ثمة حوار داخلي يندرج في إطار حديث النفس لا يرقى إلى مستوى تيار الوعي لأنه متماسك العبارة يصدر عن وعي ورصد ومشاهدة ويلتقط حركة الباطن من خلال سياق تركيبيٍّ منطقيٍّ متماسك لا يعتوره التقطيع أو التناثر، كذلك فإن رصد المشاهد الذي يتوزّع بين العناصر الثلاثة كما أومأنا إليه محكوم بالمنظور للذاتي المأزوم، مصحوباً بوصف المشاعر الداخلية، فهو لايحسّ بالارتياح إزاء شخص بعينه، كما أنه يقوم بمقارنة الحضور قديما وحديثا بين الرضا عن وجود الشباب والأطفال وكراهية هذا الوجود قبلا، هذا الجيشان الداخلي يقع في الصميم من تقنيات القصة القصيرة.
جيشان الطبيعة وهواجس النفس
في قصته «أجساد ثملة» تظل الطبيعة الهاجس الأهم في تشكيل عالمه القصصي، وهي هنا تركز على المطر والريح والرعد، هذا الفضاء الكوني الواسع الذي تشتبك معه حركة الشخصية الأنثى حيث يجهد الكاتب في رسم بورّتريه لأنثى متمرّدة مأزومة خرجت تنشد خلاصاً من ركام السنين الأربعين العجاف التي نالت منها جسداً وروحاً تستحضر شبحاًغائباً تعلقت به، تنعى أنوثتها الضائعة في عالم ذكوريٍّ لا يوليها أدنى اهتمام.
في القصة صوتان مزدوجان: صوت الراوي العليم الذي سلّط عدسته على الشخصية يلتقط ملامحها وحركتها وخلجات وعيها بريشته، وصوت الأنثى الضحية التي تخرج في المطر والريح والبرق تشكوغربتها الروحيّة وتلتمس الخلاص من أغلالها، فهذا الجو العاصف معادل موضوعي لما يدور بداخلها، والكاتب يخرج من حدود التجربة بخصوصيّتها الحميمة إلى عموميّة المجتمع الذي لايعتدّ بالأنوثة ويسلبها حريّتها، وذلك على نحو مباشر حين يصف الأماكن المخصصة للئكور دون الإناث، والاحتفاء بالرجل دون الأنثى ومعاناة المرأة بطلة القصة واختراقها للأسوار التي تحاصرها والتماس حريتها في هذا الفضاء الكوني الواسع متمرّدة على القيود في مشهد عارٍ ولوحة ناطقة:
“السيارات مسرعة والقطط تخرج من مكمنها والسماء ما زالت تغنّي شيئا من بقاياها على مسامع الأرض، وقفت وسط الطريق جمعت خصلات شعرها، نثرتها على الكفين لترسم لوحة جميلة بشكل دائري اكتملت خلف رأسها”
النفس الروائي وتكثيف الذاكرة
في قصته «أنين الذكريات» يمتد الزمن على مساحة شاسعة تتسع لعمربكاملة، وتستغرق سلسلة أحداث يتسع لها السرد الروائي، ولكنها تتقلّص عبرالذاكرة مضغوطة في قرص اللحظة في توتّرها وانفتاحها عبر الذاكرة على تلك المحطات الزمنية الشاسعة مستوعبة الأحداث الكبرى التي تجمّعت في مرآة مقعرة وتركزت في لحظة متوتّرة مأزومة، وكما هي الحال في القصة السابقة فالكاتب يستنبتها في وعي الأنثى منذ طفولتها المبكّرة وتختزل عبرها كل مكوّنات الأزمات ولحظات التوتر، وتنتهي بخطاب شعريّ لعاشق غائب اختار له الكاتب اسم «سامر» وهو اسم له دلالته ومغزاه، وبلحظة تنوير تتكاثف فيها جمرات المعاناة بأماكنها وأزمانها وتضاريسها. ويبدو العنوان عتبة تدلف بنا - كونها علامة سيميائية - إلى تجاويف المأساة.
سردية السيرة وشهادة العاشق «قصة في رسالة»
وفي قصته «رسالة من الصين» يصطنع أسلوب الرسالة التي تتضمن سرديّة العشق والعذاب واللقاء والفراق بين أقاصي الشرق وأدانيه، تتسع لكل مقوّمات البناء من الحكي والحوار والاسترجاع والخطاب والتاريخ طبقا لمصطلحات الشكلانيين الروس، فثمة حكاية تسترجعها البطلة الصينية عن معشوقها التاروتي الذي يختزل تاريخ المنطقة وملحمتها وجمالها وحضارتها على لسان الفتى المعشوق، لحظة تحتشد فيها الذكريات التي تمتد وقائعها على مدى سنوات أربع، خطاب عاشق لمعشوق يتحول إلى عناق بين حضارتين شرقيتين وتبتّل في محاريب الروح وابتهالات في فضاءات الحب الذي يمتد بين الأرض والسماء هائما في وله الصب المنذورة روحه للصفاء والنقاء والنور الإلهي والمحمديّ البهاء. أسرار تتصاعد أبخرتها من قمقم المحبوب لتنتشر في أقبية الأزمان وجراحات الحدثان وهموم الثقلان: العراق وفلسطين حيث تتعالق هموم الذات مع أنين الوطن واختلاجات قلب الإنسان، قصة في رسالة تس تكمل مقوماتها دون زيادة أو نقصان.
المقدمات المنطقية والنتائج الحتمية
في قصته «وهج الخيال» يصطنع تقنية جديدة أشبه بالحلم تنهض على ركنين أساسين: الواقع والخيال، الهروب من الواقع إلى الخيال إذا استعصى الأمر واشتد الكرب، والمفارقة تكمن في سلسلة من الثنائيات أساسها: الخيال والواقع وتتناسل منها ثنائيات الهموم الجماعية والهموم الفردية والمشكلة والحل والجدّ والهزل والمواجهة والهروب والوصف والسرد والمونولوج والديالوج والقلق والطمأنينة، في معادلة منطقية تتوزعها الحكاية التي تقوم عليها بنية القصة: البداية ممثلة في المقدمة المنطقية الأولى: الشكوى الجماعية من الاكتئاب والقلق والأرق وأصحابها هم الموظفون القابعون وراء مكاتبهم، والمقدمة الثانية المشكلة التي يعاني منها المُراجع الذي طال انتظاره لإنجاز معاملته التائهة بين أوراقهم ثم النتيجة التي تمثّل خلاصة المقدّمتين: اللجوء إلى الوصفة الخيالية التي قدمها المراجع وكلهم في الهم سواء، لم يجدوا مفرا من الهروب من الواقع البائس إلى الخيال ومن قسوة اليقظة إلى نعيم الحلم، وقد شكّلت الوصفة السحرية التي قدمها المراجع لكل منهم صلب القصة وجوهرها، أما لحظة التنوير فقد ظلت رهن الانتظار، خاتمة مفتوحة على آفاق التأويل، وقد بدا واضحا أن القصة هذه قد استوفت أهم شرط من شروط القصة القصيرة وةهي تصوير لحظة التوتر والأزمة.
القصة الومضة
ومن القصص التي تبدو أشبه بالومضات الخاطفة ذات الملمح الانتقادي قصة «غباء خاص جدا» وهي تنهض أيضا على المفارقة الكاشفة: وهي أشبه بالبنية المنطقية التي أشرت إليها من قبل، المقدمات والنتائج الموقف مع شرطي المرور وما دار بينه وبين بطل القصة من حوار انتهى باتّهام المتدينين بالثقافة الزائفة، ثم الحوار مع أحد المتدينين الملتحين الذين اتهموه بالعلمانية ى؛ أما النتيجة فهي حلق اللحية وإطلاق الشارب بوصفها لحظة التنوير والنتيجة التي أسفرت عنها المقدمتان الحواريتان السابقتان وعصب البناء هو المفارقة.
بنية السؤال والجواب
في قصة «قطط، حشرات، نمل» تنهض البنية على السؤال والجواب، الفكرة والتحليل، المعادلة المنطقية التي تطرح الفكرة للتساؤل في شكل مقدمات ونتائج: باسم وباسل وبسام ومواطن: مشكلة تؤرق المجموعة تتحول إلى موضوع للحوار، ثم حل في شكل وسيلة إيضاح أو قصة جديدة ثم استخلاصها للنتيجة ذات البناء المنطقي الذي سبق أن أشرت إليه.
هندسة التصنيف والتقسيم
هذا النحو يمضي الكاتب في قصته «مثلث من ورق» فكما لجأ في قصة سابقة إلى نماذج تمثل فئات اجتماعية: المتدينين والعلمانيين، يصنّفهم في هذه القصة إلى فئات ثلاث: الأهل والتجار والمثقفين، االأول يمثلهم الأب والثانني التاجر مجروش والثالث جاسم الجابون ويمكن احتسابه مع الشيخ الإمام من الضلع الثالث «المثقفين»، وتنتهي القصة بالمواطن، وهو الاسم الذي راختاره لبطل القصة لييخرج من الخاص إلى العام ويجعل العقدة ذات طابع إشكالي عام.
البروتريه والنموذج المأساوي
في قصة «ترانيم مواطن متسكع» بورتريه جديد لنموذج مأساوي آخر، ولكنه هذه المرّة رحل وليس امرأة، فقد عمد إلى رسمه من الداخل، جعله يفضي بمكنوناته ويرصد ردود من حوله، وقاده إلى حتفه بقدمية، فكانت النهاية هي الموت بعد موجات العذاب، أسلوب البوح والإفضاء والاحتجاج هوالذي يميّزه، فالحدث حاص عام؛ ولكنه يقود إلى الرؤية التي يراها المؤلف، وذلك من خلال الاسم الذي اختاره لبطل قصة وجاء ذكره في أكثر من قصة، وهو «مواطن» وهذا الاسم شائع في كثير من قصص المجموعة.
يبدو الكاتب مسكونا بهموم المجتمع يسلّط عدسته على مواطن بذاتها مضيئا لها، متقصيّا لأنماط من السلوك، كما في قصته «شيخ قريتي» التي يبدو فيها النموذج الانتهازي القادر على التحايل والمراوغة من أجل تحقيق مصالحه الخاصة عبر استثمار موقعه، وفي قصته «الدقيقة الخامسة بعد منتصف الليل» يعمد إلى بناء المفارقة التي تلامس سقف السخرية حين يتمركز حول موت الزعيم الذي تتقزّم حوله هموم البشر مستثمرا أسلوب المرايا التي تعكس وجوه المعذبين، ويلامس سقف «التابو» الاجتماعي الذي تفرضه العقليات الأسيرة للفكر المتخلّف في قصة «أنا وأمي والمحرمات»
ويضيق المجال عما يمكن أن يقال، ولعل التزام الكاتب بتلمّس جغرافية الواقع الاجتماعي ومرجعياته وثقافته من خلال الرصد الانتقائي الذي يعيد إنتاج خرائطه عبر المفارقات وبناء النماذج وتقصّي الأنماط واستثمارالأبنية المنطقية في هندسة التشكيل أبرز ما يميّز هذه المجموعة.