آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

همسة حب

عبد الباري الدخيل *

على باب صالة الأفراح في أطراف المدينة وقفت فاطمة وأمها تنتظران السائق لتعودا للبيت.. قالت فاطمة بسأم: ماما تأخر السائق، فأشارت الأم إلى سيارة قادمة: ها قد وصل.

ألقتا بجسديهما على المقاعد الخلفية فقد تعبتا، بعد أن طال الحفل وتأخر انتهاؤه..

تبتسم فاطمة وهي تسترجع صور الحفل وفرح العروس وسعادة أهلها، والتفتت لأمها: كانت العروس في قمة الجمال، ردت أمها: لم يكن جمالها بأكثر من جمالكِ، فقد انبهرت الحاضرات بجمالك، وأناقة فستانك.. وعطرك الجذّاب.

كانت ترتدي فستاناً أحمراً بلا أكمام وله فتحة على شكل «7» قصيرة من الأمام وطويلة من الخلف، مفتوح من بعد ركبتها اليمنى، ونسقت معه صندلاً بكعب عالٍ، كما اعتمدت تسريحة شعر مرفوعة، وأكملت زينتها بأقراط طويلة وسلسال من الذهب الأبيض تتدلى وسطه لؤلؤة.

نظرت إلى أمها وهي تسترجع حديثها مع إحدى الحاضرات: ابنتي مازالت صغيرة.. أرادت أن تسأل أمها وابتسامة تعلو محياها: هل كانت تخطبني؟ لكن فاجأها السائق بحركة غيرتْ من جلستها وألقت بها لتصطدم بأمها، التي صرخت في السائق: ماذا بك؟

قال بلكنته الهندية: «ماما هذا شباب في سيارة تاني يسوي مشكل».

نظرت فاطمة من النافذة إلى سيارة فيها بعض الشباب الذين أغراهم خلو الشارع وتأخر الوقت للتحرش بهما، وهم يتحدثون بصوت عالٍ، ويرددون الشتائم القذرة.

عند إشارة المرور حاول أحدهم فتح باب السيارة من جهة فاطمة لولا أنه كان مقفلاً.. فصب غضبه على زجاج النافذة بالضرب، وشتمهما بكلمات قبيحة، وهو يعرض عليهما مرافقتهم ”تعالي اوديش الزراعة يا «...»“.

صرخت فاطمة خائفة وهي توجه السائق: روح بسرعة.. بسرعة.. روح.. روح، فانطلقت سيارتهما تلتهم الطريق كالسهم والسيارة الأخرى مازالت تواصل المطاردة، ومستمرة في مضايقتهم بالاقتراب والتهديد بالاصطدام.

وعندما اقتربت سيارة المطاردين كثيراً حاول السائق أن يتفادها بالانعطاف؛ فانقلبت السيارة وتدحرجت عدة أمتار ولم يوقفها إلا الحاجز الإسمنتي الذي ارتطمت به.

فاطمة تئن على سرير أبيض يكاد يكون بارداً كلما حركت جسدها النحيل، وعبثا تحاول أن تفتح عينيها الناعستين إلا أن جفونها لا تتسع لأي ضوء.

تردد في ضجر.. أشعلوا الأنوار

افتحوا الستائر..

كأنني أختنق من ظلمة المكان..

وفي هذه الظلمة الدامسة لا يجيبها غير صوت عميق: لا بأس يا بنتي اصبري قليلا الطبيب قادم.

يأتي الطبيب فيحدث أباها: لا يوجد أمل.. لابد أن تعتاد العيش بهذه الحال.

وضعت فاطمة يدها على رأسها وأجهشت في بكاء شديد..

كان في انتظارها خبر أكثر إيلاما من تناثر شظايا الزجاج في عينيها، بل وأعظم من ذهاب بصرها.. لقد فقدت ملاذها وحضنها الدافئ.. فإلى من تركض شاكية وعند من تدفن رأسها طلبا للعاطفة؟ فقد توفيت أمها في الحادثة، وكل ذلك بسبب تهور بعض العابثين.

كانت علاقة فاطمة بأمها قوية للحد الذي لم تكن فقط أمًا وإنما كانت الصديقة والرفيقة والمرشدة، كانت لها كل شيء في حياتها، وهي كذلك كانت لأمها كل شيء في الحياة فهي وحيدتها.

كانت فاطمة قد ورثت من أمها الذكاء والكرم وطيب المعشر ومحبة الناس، كما ورثت منها ملامحها ولون بشرتها وشعرها.. كانت تشبهها كثيراً.

منذ تلك اللحظة بدت فاطمة شاحبة بعينين غائرتين، ووجه باهت الملامح، ماتت الابتسامة على قسماته وذبل تورد خديها وانقلب ربيعها خريفاً لا لون فيه.

عاشت فاطمة سنة كاملة حبيسة سجون ثلاثة.. فقد الأم.. وفقد البصر.. والصمت الذي أحاط بغرفتها فحولها لصورة فوتوغرافية باهتة.. حتى قرر والدها أن يمسك بحبل المبادرة فيكون لابنته الأب والأم والمعلم والصديق.

ذات مساء دخل عليها غرفتها وأمسك بيدها وأجلسها أمامه ثم قال:

⁃إلى متى وأنت حبيسة هذه الغرفة؟

أجابته بلسان مثقل:

⁃فقد أمي مزق قلبي، وفقد بصري جلعني حبيسة هذا الظلام، قالت ذلك ثم أخذت تبكي.

ضمها والدها إلى صدره وربت على كتفها ثم أمسك بوجهها ومسح دموعها بيده، وقال: يا ابنتي إن كل ما يواجه الإنسان في الحياة هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى.. ثم وضع يده فوق رأسها ومسح عليه وهو يكمل: عليك يا حبيبتي أن تؤمني بأن الله معنا ومعيننا، ولابد أن تقرري أن تتحدي هذا الظلام بإشعال شمعة الفكر والمعرفة والبصيرة وأن تحاربي الجهل بالعلم والثقافة.

تمتمت بحزن: سمعتهم في المستشفى يقولون أني معاقة.. وهذا يجعلني بلا فائدة، فأنا كفيفة واعتمد في حركتي على الآخرين.

قال بحزم: لا يا ابنتي.. المعاق من يعيق نفسه عن التقدم في مضمار الحياة التي لا يتوقف دولابها عن الدوران.. أنت تعلمين أن هذا ليس نهاية المطاف، ولا أظنك قد نسيتِ أن هناك لغة أخرى يقرأ ويكتب بها المكفوفون.

هل نسيتِ لغة «برايل» التي تعتمد على رموز بارزة على الورق بطريقة التشفير العسكرية.

قالت بعد أن هدأت قليلاً: نعم أعرف ذلك.

رد عليها: سنتعلمها ونقرأ ونكتب من خلالها، وسوف أقرأ لك أيضاً الكتب الأخرى وأسجل لك بعض الكتب المفيدة لتستمتعي بها وتملئي بها أوقات فراغك.

مرت الأيام وأبوها عاكف على ما وعدها به، وكان يقنعها بالخروج من البيت ليغير شيئاً من حياتها فيرهف سمعها بعض الأصوات وتداعب وجنتيها بعض النسمات حتى استجابت وتجاوزت كل العقبات والمنعطفات.

وبهمتها وعزم أبيها أتقنت فاطمة لغة «برايل» قراءة وكتابة، وما آن تمرر أناملها الرقيقة على الورقة وكأنها تعزف على البيانو حتى تجمع الحروف وتقرأ بكل إتقان.

صحيح أن البعض كان يحرجها عندما يعاملها كإنسان ناقص فيوجه الأسئلة لمرافقها بدلاً عنها، وكثيراً ما كانت تسأل: هل يصعب على أحدٍ لفت انتباه الكفيف بأنه قريب من من العتبات والسلالم فيقول: اصعد أو انزل؟ أو أن يخبره أن هذا المشروب ساخن أو بارد؟ أو أن هذه قهوة وهذا شاي أو هذا عصير؟ أو أن يقول له يمناك كي يصافحه؟

مرت الأيام وفاطمة تصعد درجةً درجة، وتتحسس وجه الحياة بما حباها الله من نعم، وتمضي سبع سنوات من الصبر والمثابرة والعطاء والغرس المتواصل، حتى جاءت ساعة الحصاد بعد أن أينعت الثمار، فتقدمت لتعتلي منصة التتويج ممسكةً بيد رجل كهل، تحيي عميد الجامعة وتستأذنه في الحديث، فلديها همسة حب تريد إبلاغها. تمسك بالميكرفون بفخر وهي تقول: إن كان لأحدٍ فضل بعد الله فيما وصلت إليه فهو والدي الذي زرع بذور الأمل في حياتي حتى جاءت ساعة الحصاد وها نحن نقف أمامكم بعد مشقة وعناء وصبر.

أود في هذا المحفل أن أقول لوالدي أن كل كلمات الشكر والعرفان لا تفي لك بحق.. شكراً لك يا أبي.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
مريم الساعدي
5 / 11 / 2020م - 11:49 ص
رائع الوجد والقلم استاذي ماشاء الله عليك