القارِبُ والتقارُب
قبلَ سنواتٍ وفي سيارةِ ”حوض“ كنتُ الوحيدَ برفقةِ السائقِ الذي يطوي الصحراءَ متجهًا إلى هجرةٍ بعيدةٍ في الشمال، وصلتُ محطّتي، أعطيتُ السائقَ أجرتَه، دخلتُ وسلَّمتُ على المديرِ الذي سألني من أنت، أعطيتُه قرارَ تعييني في مدرستِه، أخبرتُه باسمي وأضفتُ بعدها ”من القطيف“، نظرَ إليَّ نظرةَ مستفهمٍ ففهمتُ قصدَه لأُكملَ ”شيعي“.
كنتُ أعلمُ أنِّي الشيعيُّ الوحيدُ في الهجرة، لكنَّ قاعدتي كانت أنْ أُعرِّف بنفسي دون مواربةٍ فلا حاجةَ ليبحثوا ويتساءلوا عنِّي مِن هنا وهناك فلديهم فرصةُ عامٍ دراسيٍ كاملٍ ليصلوا إلى النتيجةِ ذاتِها فأكون بعدَها في موطنِ مَن فُضِحَ سرُّه الذي كان يخبئه. ولا أُخفيكم بأنِّي سُررتُ وأنا أُفسد متعةَ البحثِ عنِّي.
في أيامِنا هذه وكغيري وأنا أتابعُ كيفيةَ إدارةِ الاختلافاتِ في الداخلِ الشيعيِّ أو خارجِه زادتْ قناعتي بأهميةِ قاعدةِ التعريفِ بالنفسِ بكلِّ موضوعيةٍ وهدوء.
ولتستمعَ هنا تحديدًا لوجهةِ نظري البسيطةِ في كيفيةِ التقاربِ مع أخي السنِّي أدعوك بمرافقتِنا على القاربِ لتستمعَ إلينا ونحن في عُرْضِ البحر.
سأقولُ له: إنَّنا نُبحرُ الآنَ في بحرٍ عمرُه أكثرَ من 1400 عام، ماؤه أحبارُ مؤلفاتٍ لعلماء من الشيعةِ والسنة، سأشيرُ إلى تلكَ الجهةِ لأخبرَه بأنَّ ذلك اللغمَ المائيَّ هو رأيٌ لعالمٍ من علمائٍنا بتكفيرِكم وبأنَّ مآلكم إلى جهنم، وقبل أن ينتهيَ من تعجبِّه لصراحتي سأشيرُ إلى لغمٍ آخر لأعلمَه أنَّ هذا رأيٌ لأحد علمائنا بنقصِ القرآن وسأنتقل من لغم إلى آخر، بعدها سأشيرُ إلى ألغامِ بعضِ علمائه ليس أقلّها تكفير الشيعة.
وإذا سألتني أيها المرافق لماذا تخبره بالمستور، سأجيبُك بأنَّ ألغامَ كلِّ الأطرافِ في زمِننا هذا أصبحتْ مكشوفة، وعند إنكاري لها سيأتي بها قبل أن يرتدَّ إليَّ طرفي، فبدلَ إنكارِها أو محاولةِ سترِها لنعترفَ بها وبهدوءٍ كي لا نصطدمَ بها فنغرق جميعا.
أثناء تفحّصِه للألغامِ سأكونُ قد جهَّزتُ ثلاثَ بدلاتٍ للغوص، لي وله ولك، سنغوصُ في عمقِ البحر، وهناك سنصادفُ أجملَ اللآلئ، لآلئَ لعلماء من الطرفين عن محبِّة ِكلِّ طرفٍ للآخر، عن أُخوَّتِهما، عن مشتركاتِهما وأنَّ القرآنَ الموجودَ بين أيدينا هو المنزلُ على محمدٍ ﷺ.
ونحن نستمتعُ برؤيتِها سأخبرُه: لنتقارب علينا أن نقرِّرَ ماذا نختار: الألغام أو اللآلئ.
سأتابع: نحن لسنا مطالبينَ بحملِ تاريخٍ عمرُه أكثر من 1400 عام جرى فيه ما جرى من صراعاتٍ وحروبٍ واختلافات، لسنا مكلَّفينَ أن ندافعَ عن رأيِ أيِّ عالِمٍ فقط لأنه ينتمي إلى مذهبِنا، فالتشيعُ ليس سُبْحةً واحدةً وكذلك بقية المذاهب؛ لذلك لن أضعَ جميعَ تلك الآراءِ في سبحةٍ واحدةٍ فإذا سقطتْ حبَّة انفرطتْ السبحةُ كلُّها، سأسبِّحُ فقط بالسبحةِ التي أعتقدُ بها؛ سبحةِ اللؤلؤ.
هذا إذا كنَّا نريدُ الانطلاقَ في التقاربِ استئناسًا بأقوالِ العلماءِ الأجلَّاء، أمَّا إذا أخبرني بأنه يكتفي بالقرآن، عندها سأمسكُ بيدِه وأنزلُ من القاربِ وقد اكتفيتُ بدلَ عناءِ تلكَ الرحلةِ بقولِه تعالى: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾، وهنا سأطلبُ منك أيها المرافقُ العزيزُ أنْ تُعيدَ لي بدلةَ غوصي التي أتمنَّى ألاَّ تكونَ بحاجةٍ إليها.