رؤية في المهام والآفاق
العمل الأهلي والتنمية الثقافية
من الثابت تاريخياً أن الدولة الإسلامية قد انحرفت مبكراً في التاريخ الاسلامي. وعلى ضوء ذلك هناك معادلة غير محلولة، لدى الكثيرين، وهي كيف يمكن التوفيق بين هذا الانحراف المبكر، وابتعاد الدولة عن قيم الشورى والحرية في علاقة الحاكم بالمحكوم، وبين ازدهار الحضارة الإسلامية واتساع رقعتها الجغرافية والشعبية..
إن التوفيق بين هذا الانحراف، والازدهار الحضاري، هي تلك المعادلة التي يخطئ في فهمها وحلها الكثيرون. فيظلمون تاريخنا الحضاري عندما تستقطبهم مظاهر انحراف الدولة والسلطة..
وإن هذا الخطأ جاء وتبلور في عقول الكثيرين من أبناء الأمة، لإغفال حقيقة أساسية، وهي أن الأمة ومؤسساتها الأهلية وجهودها الطوعية، وأعمالها الخيرية وعلماءها وأئمتها ومجاهديها ومدارسها العلمية والتي ظلت خارج نطاق هيمنة الدولة والسلطة. فلم تعطل انحرافات الدولة طاقات الخلق والإبداع فيها «الأمة»..
وبكلمة: أن الأمة ومؤسساتها هي التي أبدعت حضارة الإسلام وأوصلته إلى أقاصي وأطراف الأرض. فالأمة هي التي صنعت الحضارة، ورعتها، وطورتها. وهي استطاعت ذلك على رغم انحراف الدولة، لأن هذه الدولة ومن ثم تأثيرات انحرافها كان محدوداً.
ولقد أعان الإسلام على ترجيح كفة الأمة على كفة الدولة منذ بداية تجربته في الحكم والسلطة. وأسهم في ذلك كثير من مبادئه السياسية وقواعده الفكرية. فالأمة هي المستخلفة عن الله سبحانه وتعالى، أما الدولة فهي الخليفة عن الأمة بالاختيار والخاضعة لرقابتها وحسابها. فالطرف الأصيل في نظرية الحكم والسلطة هي الأمة.. والأمة في الإسلام هي التي يتوجه إليها الخطاب في التكاليف الاجتماعية «الكفائية»، وهي أشد توكيداً من التكاليف الفردية «العينية»، حتى ليقع الإثم في التخلف عن إقامتها على الأمة جمعاء، وليس على الفرد وحده.
وقد قال تعالى في كتابه الكريم ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فاؤلئك هم الفاسقون﴾.
فالخطاب في هذه الآية المباركة لم يتوجه إلى قمة الدولة مثلاً، وإنما توجه خطاب الآية المباركة إلى الأمة كافة، مما يفيد أن مسؤولية العمل الصالح «بمعناه العام» ليست خاصة بالقائد أو السلطة السياسية، وإنما لعموم الأمة الإسلامية..
بهذه المبادئ والقواعد وأمثالها رجحت في الرؤية الإسلامية، كفة الأمة على كفة الدولة والسلطة. إذ ”أن المشروع السياسي للإسلام هو تكوين الجماعة/الأمة“. فهي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يمارس الفرد فيه شعائر الدين كاملة. وهي المجال الوحيد لتحقيق الدين. وإذا كانت مفارقة سخيفة أن نقول أن الدين لا يمكن تحقيقه خارج الجماعة لكنها حقيقة بديهية ربما يتناساها الكثيرون من الذين يعتبرون أن الدين، خاصة الإسلام، يمكن تحقيقه على الصعيد الفردي المحض. هذه التجربة حاولتها الصوفية لكنها تحولت عنها بعد فترة من الزمن. فقد بدأت الصوفية كأسلوب فردي في التعبير والاتصال بالله لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى ممارسات جماعية وصارت طرقاً جماعية.
ولهذا فإن الإسلام هو دين الجماعة، كما هو دين الفرد فإن ”تعليمات الإسلام في مجالات الحياة المختلفة، وحقولها المتنوعة تدل بلا شك على اهتمام الإسلام البالغ ببناء المجتمع، المتعاون، المتماسك، المنظم، المتكافل،.. دين الجماعة والنظم“.
إن تلك التعليمات تكشف أهمية إصلاح البنية الاجتماعية باعتبارها الأساس الصلب والقاعدة المتينة التي يؤسس عليها المجتمع انطلاقاته في مختلف ميادين الحياة، حيث من العسير على مجتمع أن يقلع التحضر والتمدن مرتكزاً على بنية اجتماعية رخوة.
هذه هي الحقيقة التي تفسر وتحل المعادلة، التي يخفق في حلها كثيرون.. وبها نعرف كيف بنت أمتنا أعظم الحضارات على الرغم من الانحراف المبكر للدولة عن هدى الإسلام وقيمه.
وانطلاقا من هذه الحقيقة سنتحدث عن مؤسسة من مؤسسات الأمة ودورها في نهضة مجتمعنا وتقوية قواعده التحتية.
أولاً: لا شك أن العمل الأهلي، له أهمية خاصة في الدفاع عن المجتمع الأهلي المدني، لأنه يدعو إلى ضرورة وأهمية انتظام الناس في أطر اجتماعية واقتصادية وثقافية مستقلة عن كيان الدولة لكي يثبت المجتمع نفسه. وهي مؤشر «عملية الانتظام» على دخول المجتمع مرحلة الرشد التي تقتضي إمكانية تنظيم الذات، وينتج عنها بالتالي تخفيف تدريجي لمدى اعتماد الناس على الدولة، في معيشتهم وتنظيم أمورهم، وهكذا يتضاءل استتباع الناس للسلطة، وتتعاظم أهمية الوظائف الاجتماعية غير المرتبطة إداريا ومالياً بالدولة وبالقيمين عليها. ولكي تكون هذه العملية ناجحة ومثمرة لا بد من إشاعة «الثقافة المدنية» على حد تعبير علماء السياسة والاجتماع في الوسط الاجتماعي بحيث تنمو هذه الثقافة في كل مؤسسات المجتمع ودوائره المختلفة «المدرسة - الأسرة - المسجد - الجمعية» وما أشبه.
لهذا فإن المجتمع الأهلي المدني يتجه إلى تأكيد الهوية الدينية والوطنية المشتركة، كما أنه سبيل أساسي من سبل التنمية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي..
وتتأكد أهمية العمل الأهلي التطوعي في حالتين أساسيتين..
أ - الهيمنة الاستعمارية التي تسعى إلى محاربة واجتثاث كل مقومات الاكتفاء الذاتي لدى المجتمع، والعمل على ربطه كلياً بالدوائر الاستعمارية..
ب - عجز الدولة الوطنية عن القيام بواجباتها اتجاه المجتمع ومتطلباته، ولا شك أن في هاتين الحالتين تتأكد الحاجة، إلى وجود قنوات مغايرة، تعطي أكثر مما تعطيه الهياكل والبنى الرسمية. ولهذا نحن باستمرار بحاجة ماسة إلى تطوير حركة العمل الأهلي والشعبي «التطوعي» حتى يمارس دوره الطبيعي في إنما المجتمع في مجالاته المختلفة.
وينبغي النظر إلى هذه الأعمال والمؤسسات باعتبارها تشجيعاً للممارسة التعددية في مختلف مظاهرها ومجالاتها. مثلما هي تشجيع لمبدأ المشاركة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية باعتبار أن «المشاركة» هي القلب النابض للمجتمع المدني، وعلى هذا فإن العمل الأهلي والشعبي لا بد أن يتنزل في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع.
لأن ”دور هذه المؤسسات يتكامل ليصل إلى تفجير الطاقات والقابليات المجتمعية واحتضان الكفاءات العلمية والأدبية، وتفعيل الأدوار المختلفة للمجتمع، والمساهمة في التخطيط تشغل أوقات الفراغ في المجتمع، وتطوير الأداء الجماعي، والارتفاع به إلى مستوى متقدم، ليصل فيه المجتمع للاعتماد على نفسه وقدراته المحلية، ليواجه أعباء الحياة بنفسه، وبدون نيابة أحد عنه، إلا في الحالات التي لا يستطيع المجتمع القيام بها، لضرورة أو نقص خبرة أو قلة كادر متخصص“.
وعن هذا الطريق يمكننا أن نمنح العملي الأهلي صفتين أساسيتين:
أ - الاستمرار باعتباره حركة تراكم تاريخية يشارك في صنعها جميع الأجيال المتعاقبة، وبما ينبثق من ذلك من تقاليد وممارسات وهياكل..
ب - الشمول، بمعنى أن يكون العمل الأهلي والشعبي شاملاً لجميع مجالات المجتمع «مع الإيمان بتعدد الأطر والأوعية المستوعبة لهذه الأعمال والنشاطات».
ولا بد من التأكيد في هذا الإطار على أهمية الكثافة التاريخية وعمق التشكل الزمني، لظاهرة العمل الأهلي والشعبي. الأمر الذي يفرض اعتماد منهج التاريخ الاجتماعي المقارن، كاختيار معرفي يساعدنا في إيجاد الصيغ والآليات المناسبة لتطوير العمل الأهلي في بُعده الثقافي، كما أن المقارنة تساعدنا على استجلاء نقاط التماثل والمسائل الخصوصية والاختلافات، وبالتالي نستطيع التوفيق بين مبدأي الشمولية والخصوصية. وبالتالي قد تكون هذه الدراسة مدخلاً طبيعياً وحقيقياً لدراسة مستفيضة لعلاقة الدولة بالأمة والمجتمع.
وتأسيساً على ذلك نقول، أن المجتمع المدني القادر، هو الذي يحوي على بنية مؤسساتية أهلية متطورة، تكون خير سند إلى المجتمع في مجالات التعليم والثقافة والاجتماع والاقتصاد، تساعد العاجز عن التعلم، وتعطي الضعيف مادياً سبل الاستمرار في التعلم وهي أيضا نموذج من السند الأسري والاجتماعي، وان التوازن النفسي. وعبر التاريخ كان العمل الأهلي التطوعي حضوراً شعبياً في زمن غياب الدولة أو اهتراء هياكلها..
إن إخضاع العمل الأهلي، لمبدأ الأولوية وترتيب مجالاته وفق الحاجة والضرورة، يلغي مقولة عشوائية العمل الأهلي ويثبت وجود منطق داخلي متحكم في تطوره يناسب حركة المجتمع، وبالتالي فإن هذه الجهود تصب في المصلحة الاجتماعية العامة..
فإذا أعطيت الأولوية في هذه الدراسة إلى الحقل الثقافي فمرد ذلك إلى حاجة النظام الاجتماعي «أي نظام اجتماعي»، إلى حركة ثقافية تمارس دور التوجيه والضبط للحركة الاجتماعية. ومن المؤكد أن العمل الأهلي ونموه، مرتبط بهامش من الحرية المتاح لها على صعيد المجتمع من جهة، وبعنصر الدين ودعوته الصريحة من أجل التعاون والتكافل الاجتماعي.
فقد قال تعالى: ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين﴾.
وقال تعالى ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾.
والعمل الأهلي المنشود في الحقل الثقافي ينبغي أن يستجيب لحالتين:
1 - أن المشروع الثقافي الذي نسعى إلى بلورته في مجتمعنا مشروعاً ذا أساس ديني. بمعنى يعتبر الإسلام تحديداً هو ذلك الينبوع الصافي، والوعاء الأيدلوجي والمعرفي الذي ينتهل منه المشروع الثقافي قيمه ومعاييره وأهدافه..
2 - وان اعتماد المشروع الثقافي على أساس ديني، لا يعني الانغلاق على نحو التفاعل مع قضايا الإنسان المختلفة ومن منظور قيمي - إنساني خالص -..
ولهذا كان المشروع الثقافي الاسلامي الأول في عهد رسول الله ﷺ، يولّد في حياة كل إنسان مسلم جدلية تاريخية بين الإنسان والعالم بحيث يصبح هذا الإنسان حاملاً لمشروع تغيير العالم.
وكان هذا هو جوهر مشروع الأمة الثقافي لذاتها وللعالم. فهو مشروع يسعى نحو تنظيم الواقع الإنساني بما يتطابق مع مضمون الإسلام وقيمه الخالدة. وبالتالي جعل حركة الإنسان «الفرد والمجتمع» منسجمة والقيم الإسلامية.
إذ أن احد المجالات المهمة التي تجسد فيها العمل الأهلي واتخذ داخلها أبعاداً عميقة ومتأكدة هي التعليم. وقد وفرت هذه المؤسسات عبر التاريخ فرصاً هائلة للتعلم والتعليم، وفي الحفاظ على الهوية الدينية والوطنية للمجتمع في وجه الغزوات الخارجية أو عمليات التخريب والقمع الداخلية..
كما أن لها الدور الأساسي في إنتاج القيم، وتكوين النخب العلمية والسياسية والأدبية التي كانت تمارس دوراً قيادياً على صعيد المجتمع والوطن. وقد شكل العلماء والمثقفين، وفي مختلف العصور والأزمان مرتكزاً أساسياً من مرتكزات العمل الأهلي في المجتمعات البشرية. إذ أن الكثير من الجهود والمؤسسات الأهلية كانت تنبثق تحت رعاية العلماء والمثقفين.
لهذا كله فإننا في هذه الفترة، ينبغي أن نولي أهمية خاصة في بناء المؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية باعتبارهما مؤسسات أهلية تدفع باتجاه تقوية الكيان المجتمعي وتشارك في التصدي لشؤون الناس المختلفة. ولكن السؤال الذي يطرح هو، ما هو الدور الثقافي المطلوب للمؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية في المجتمع.
دائماً المؤسسة العلمية والمعهد الثقافي جزء من مشروع مجتمع، يستدعي قيامهما وظائف ومهام هي في صميم الحياة العامة للمجتمع. والثقافة ليست غريبة عن بنية المؤسسات العلمية ورسالتها، إنما تدخل في حدّها وصلب تكوينها ومهامها. ولأن الثقافة هي نظام الأفكار التي يحيا بها عصر ما، فإن الثقافة على الدوام هي وسط الناس وأمامهم، تتعين وتتجدد بهم، لكنها تمنحهم أفقاً أكثر اتساعاً فتسهم في إعادة صياغة وعيهم وأهدافهم. وهي تستمد كينونتها من ميادين المعرفة المختلفة، لكنها ترفعها باتجاه حقيقتها. هي ثقافة تماثل الحقيقة أو الحقيقة ذاتها بمضمون اجتماعي إنساني شامل..
والثقافة التي تسعى إليها هذه المؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية كمضمون تتشكل في ظل ثلاث مهام أو وظائف أساسية…
تقوم مهمة تحصيل المعرفة والعلم، من أولى المهام إلى المؤسسات العلمية ومعاهد البحث والثقافة. وأولى حلقات السلسلة التي تشكل بنية مشروع هذه الأطر الثقافي.
وتحصيل الثقافة هي في البدء اهتماما بها، وهذا الاهتمام بالعلم والثقافة، هو الذي يفتح مسارا للعلم والمعرفة.
وتجد هذه المهمة ترجمتها الفعلية، في عودة جادة إلى منابع الثقافة الإسلامية، مع التفاعل الواعي والرشيد لمتطلبات العصر لإرساء قواعد معرفة أكثر اتساعاً وأكثر نفعاً للمجتمع.
فالمؤسسات العلمية والمعاهد الثقافية، تقدم العلم والمعرفة لا كعلم ومعرفة فحسب، بل كحلقات مترابطة في مشروع واحد يخدم المجتمع ويسعى نحو تقوية بنيته التحتية..
والجدير بالذكر، أن أغلب قواعد العلوم ومبادئه قد تشكلت وفق الحاجة البشرية. فبذور علم الهندسة مثلاً نشأ على ضفتي النيل استجابة لحاجة تحديد الأملاك بعد الفيضان. وينسحب ما قلناه في الهندسة على باقي العلوم والمعارف.
لهذا "فإنا بحاجة لروح التعاون، والمأسسة، وذلك بتصفية أفكار التخلف والضعة والقهر الراسبة في الأذهان، ثم بث روح الانفتاح والتعاون. وإيجاد هزة ثقافية تكسر أغلال النفس، وتبعثها نحو العمل والنشاط والحيوية.
ومن حسن الحظ فإن مجتمعاتنا وبرغم كثرة المعوقات والمشكلات التي تحد من نموها الاجتماعي، ومعظمها ذاتي في النفوس والعقول، إلا أنها تملك صفات أخرى تجعل من المعوقات أمراً يمكن تجاوزه بمزيد من الجهد والطاقة والعطاء في سبيل إزاحتها من طريق النمو والتقدم".
حتى تسجل المؤسسات لعلمية، والمعاهد الثقافية، إخلاصها لمبادئها ووفائها الكامل للقيم والأهداف التي تلتزم بها. وهي إنما تؤكد في ذلك ارتباطها الديناميكي بمحيطها ومجتمعها.
وإذا كان اكتناز المشروع الذاتي، أمراً مطلوباً في البدء، فما ذلك إلا مقدمات تسمح لهذه الأطر أن تكون أكثر قدرة وفعلاً وأثراً..
أما أن تكتفي هذه الأطر، بالجانب الذاتي من مشروعها، فهي تضع نفسها إذ ذاك خارج الناس، وعلى هامش حياتهم وأوضاعهم. فتستحيل في أحسن الأحوال بيت عبادة لا مركز إشعاع ومصدر للفكر والمعرفة. لكن هذه الأطر ليست صومعة تأمل ترقب الحياة من عل، وإنما هي وعي الناس في أكمل صوره الممكنة، يعمق معنى وجودهم ويشدهم نحو الأفق الأرحب..
وهكذا فإن «نقل الثقافة» يتضمن الأمرين معاً، تحقيق المؤسسة العلمية لذاتها، أي لحقيقتها وأهدافها وقيمها وانفتاحها على محيطها ومجتمعها. الأمر الذي يخدم في الكثير من جوانبه مشروع المؤسسة العلمية وأهداف المجتمع في آن.
إن مؤسسة علمية لا تسهم في جعل محيطها أكثر وعياً، وتحملاً للمسؤولية ونشاطاً وحيوية. وفي جعل أبناء المجتمع أقل جهداً وانغلاقاً. ليست مؤسسة علمية في شيء، ولا هي تنتمي إلى القيم والأهداف التي تشكل مشروع العلم والثقافة.
هو ذا معنى كون المؤسسة العلمية منارة ومركز إشعاع. هي منارة ومركز إشعاع وطليعة مجتمعها في ما لو تصدت فعلاً لتحديات واقعها ومحيطها والتزمت بهموم الناس وآمالهم وحاجاتهم.
وفي ذلك دخول بالمؤسسة العلمية وثقافتها إلى كينونة مجتمعها، فتعيد صياغته، وتغدو بالتالي وقائع لأيامهم وخبرات ثمينة تبدل في وعيهم وسلوكهم.
ولنتذكر أن العالم الحق والمثقف الملتزم، من صفاته أن تشتمل ثقافته على الأفكار التي يعيش بها عصره، يُعمل الفكر في كل ما يعنّ له، حصل من المهارة على ما يفيد به مجتمعه ويسد نقصاً فيه، ومن المعرفة ما يجعله متصفاً بسعة الأفق، ومن العلم ما يهديه إلى فهم الأمور، ومن الحلم ما ينعته بسعة الصدر، ومن البصيرة ما يكسبه بُعد النظر، ومن الصحافة والشجاعة ما يجعله أهلاً لاتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات ومن النزاهة ما يملي عليه التجرد والموضوعية.
وهو دور المؤسسة العلمية والمعاهد الثقافية الأساسي، توظف له كل الامكانات وهو ما يميزها عن الأطر والمؤسسات الأخرى، لأنها تلامس مناطق الإبداع في ذوات مريديها فتتعهدها وتصقلها وتضفي على المادة رصانة البحث وهد فيته، فتفي بوعدها لمجتمعها وتحقق ذاتها في آن.
وللإسهام هذا صيغ وميادين تتعدد وتتنوع، لكنها تتفق جميعاً في كونها إضافة أصيلة متفردة. والعجز في المساهمة في البناء الثقافي للمجتمع، لا يعني العجز عن ولولج المستقبل وحسب. بل يعني كذلك فشل الاحتفاظ بلحظة الراهن.
فالكينونة التي لا يضاف إليها تخسر من ذاتها فتتراجع إمكاناتها وتبقى في النهاية قفراً قاحلاً مجدباً.
وبالتالي فإن العمل الثقافي الذي تعنى به المؤسسة العلمية، ليس ملء الذاكرة بل تثقيف العقل، وهذا لا يتأتى مصادفة وإنما بعمل واعٍ هادف، ويترجم في وسائل وأدوات ومناهج تنبه في العقل طاقات ومواهب، وتوقظ الذات من سباتها السلبي. وفي هذا الإطار يقوم إصرار المؤسسة العلمية على تنمية روح البحث لدى أبناءها ومريديها. والمقصود من البحث هو الفحص العلمي المنظم في سبيل التدقيق في فكرة ما، أو لاكتشاف معرفة جديدة. وإذا كان تشجيع الأبحاث والدراسات يقوم في علة وجود مؤسساتنا العلمية فإنها ما زالت دون هدفها هذا. بينما تشكل مراكز الأبحاث في البلدان المتقدمة التي تعيش هواجس مستقبلها عصب جامعاتها واقتصادها ومجتمعها.
ومؤسساتنا العلمية تستطيع القيام بذلك، إذ لها من خبرتها وخبرة غيرها، ما يسهم في توفير انفتاح أكبر على مجتمعها والدخول معه بوابات المستقبل. فلتفتح مؤسساتنا العلمية ذراعيها للناس فتغدو بذلك أكثر منهةً وأوثق قربى وأعظم إخلاصا لمبادئها وقيمها.
ولا يمكن لمؤسساتنا العلمية أن تتنازل عن مشروعها هذا لأنه يعني تنازلاً من التاريخ تنازلاً عن المستقبل، وتنازلاً عن المساهمة في بناء الوطن والمجتمع.
وأخيراً ثمة فرص ومجالات عديدة لتدخل النشاطات الأهلية في مجال التنمية الثقافية، ولكن هذه الفرص بحاجة إلى صناعة الأرضية والظرف الجديد المناسب لهذه العملية.
1 تشجيع وترويج الإنتاج الفكري والثقافي المحلي.
2 خلق فرص وفضاءات لاحتضان التعابير والإبداعات الثقافية والفنية.
3 تشجيع الاستثمار في الأمور ذات الطابع الثقافي.
إن العمل الأهلي اليوم في الحقل الثقافي، أصبح ضرورة لأهميته في إقرار التعدد وتأكيد الحق في التنظيم الحر والمستقبل..