مأدبة الحياة
نريد ركوب الطائرة والقطار ونشتري السيارة ونشتهي رحلة بالباخرة وقد مر على بالنا ركوب الخيل كما كنا نركب الدراجة في أيام طفولتنا.
نذهب إلى الشواطئ ونستمتع بها ونفكر بأن لو خيمنا في البر أو تسلقنا تلاً أو جبلاً ما؛ لكان أكثر إثارة وأجلى على محيانا سعادة.
نحب القراءة ونتنقل بين القصص والروايات وكم وددنا لو أننا في ذلك الوقت قرأنا أمهات الكتب في التاريخ والدين والسياسة أو عشنا تجربة أمة من الأمم من خلال مطالعة صور حضارتها.
وحين نذهب إلى السوق وتعجبنا قطعة من الملابس وذات جودة عالية نحتار أي لون نشتري، ونتمنى لو كانت محافظنا تصنع الأموال، حتى نشتري من تلك القطعة كل الألوان، ولا نكتفي.
علينا أن ندرك بأن الحياة ليست كمأدبة الطعام التي ندعى إليها وتعج بصنوف مختلفة من المذاقات والنكهات والأنواع والألوان، وحين ندور حولها لا نختار إلا ما يتسع له طبقنا، مراعاة لأدب المائدة وثقافة أكل الطعام، ونكبح جماح شهيتنا لجميع الأصناف الموجودة، فليس من اللباقة أن نملأ ثلاثة أو أربعة أطباق بكل تلك الأنواع الكثيرة، وسنأكل مما يلينا أو ما بين أيدينا تاركين للنفس متعة النظر والاكتفاء بقناعة أن ما أخذناه في طبقنا يسد جوعنا ويشبع شهيتنا.
هكذا تؤتى الأمور والقضايا وتقتنص الفرص فليس كل ما في الحياة يجب أن ندركه أو نمر عليه أو نتمنى أن يكون لنا. قديما قالت لنا الأمهات من نوادر العرب وأمثالها الحكيمة ”رمانتين في يد ما تنمسك“ وأنه من الأنانية أن نحصل على شيء ونتمنى ما في يد شخص آخر، وإن كانت الأمنية محمودة وفي إطار الغبطة لا الحسد، إلا أن صفة القناعة والاكتفاء الذاتي من أجمل الصفات التي يجب أن تتحلى بها الروح البشرية، وفي ذات الوقت تتخلى عن روح الجشع والطمع والرغبة في المزيد والمزيد.
إذ ليست الحياة أيضا قطار يمر على كل الأودية والشعاب وكل التضاريس، فأنت في بقعة صغيرة منها وفي مجتمع من عدة مجتمعات وفي عالم من عدة عوالم وبين أناس مختلفة، جميل أن نتطور ومع كل تطور نطور غاياتنا ووسائلنا وأهدافنا ولكن في ذات الوقت الأجمل ألا نحتفظ بالقديم ونوظفه والجديد ونستعمله وما سيكون نتمناه أيضا ونستغله، فالأجمل أن نبني المستقبل على ما انتهى به الماضي ونعيشه بتفاصيله ثم ما إن يجدّ جديد حتى نستأنف العمل به أو نقتنيه، وهكذا كالشجرة التي تبدل أوراقها مع كل فصل من فصول السنة تتجدد وتنتعش وتقنع بأن ما سقط منها فهو يستحق السقوط وما بقي هو أيضا يستحق البقاء وما تكون كجديد إلا ليكون عنصر فاعل في حياة جديدة قادمة.
نسمع كثيرا من أشخاص جملة وعبارات ”ليت الزمان يعود“ أو ”كانت أيامنا أحلى من أيامكم“ ونراهم قابعين في الماضي متمسكين به في تفاصيل حياتهم بالرغم من تطور الحياة التي يعيشونها في حاضرهم غير متفاعلين معها فما كانت أيامهم إلا صورة باهتة لا بالقديمة لاستحالة بقائها ولا بالجديدة لرفضه حضورها.
يقول أمير المؤمنين علي :
إذا المرء لم يرض ما أمكنه.. ولم يأت من أمره أحسنه
وأعجب بالعجب فاقتاده.. وتاه به التيه فاستحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره.. سيضحك يوما ويبكي سنه