آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

المثقفون ”محركات أم أعواد في العجلات“

حسن المرهون

المثقفون هم الركيزة الأساس في تقدم المجتمعات واللبنات الأولى لبناء الحضارات، ومنذ فجر التاريخ لعب المثقفون من فلاسفة وأطباء ومهندسين الدور الأهم في التغيير في مجتمعاتهم وقيادة السفينة لمستقبل أفضل. فهم بعد الأنبياء الأكثر تأثيرا على مسيرة الإنسانية. فحديثا نرى اليابان بعد القنابل الذرية قد نهضت من الصفر بسواعد مثقفيها، وكيف استطاعوا إبتداءً من نشر القصة الهادفة والبسيطة والقصيرة لمحو العجز في عقول اليابانيين الى التضحية بالغالي والرخيص لدفع العربة في مجتمعاتهم وصنع حضارة أذهلت العالم. وقديما أسس المتنورين حضارة اليونان والفرس، وبنى المسلمون الأوائل حضارة سادت الدنيا عندما حصل المثقفون على التشجيع من علية القوم، فجاءت النتائج مدوية حتى عصرنا الحاضر. فالمثقفون هم دائما المحرك في المجتمع الذي يقود العربة ويجعلها تنطلق الى حيث أراد المجد، فهي تجر معها الجميع لمكانة أفضل. ولا يمكن للمثقف أن يكون يوما ما معرقلا لمسير العربة الا في عصرنا هذا، فهناك بعض المثقفين وإن كانوا قلة صنعوا من أنفسهم أعوادا في عجلات العربة ومن حيث لا يعلمون، يعيقون حركتها ولا يهتمون إن هي سارت أم توقفت.

أنواع المثقفين

بعيدا عن التعريفات الكثيرة لمفردة ”مثقف“ التي تضج بها الكتب، دعونا نختصر معناها الى التالي: المثقف هو ذلك الشخص الذي ينتظره مجتمعه كي يدفع به الى الأمام، يدواي جروحه ويزرع الأمل بين جوانحه، ويقدم ما يستطيع من حب وتفاني وتغيير الى ما هو أفضل.

وإذا ما طبقنا هذا التعريف المتواضع على فئات المثقفين في المجتمع، ربما بمقدورنا أن نصنف المثقفين الى خمسة أنواع:

المثقف المنعزل:

وهو المثقف البعيد عن محيطه، يعمل ويطالع ويقرأ كثيرا لأجل تنوير نفسه، فهذا لا يؤثر على الناس، لا ينفع ولا يضر.

المثقف اللماع:

وهو المثقف الحاضر فقط في المناسبات، يلبس جميلا ويتكلم جميلا، وهذا لا يُستغنى عنه في المحافل وهو ايضا لا يَستغني عنها، فهو كالمصباح الجميل في زفة عرس، تنطفي بعد إنتهاء الحدث. فتأثيره محدود على المجتمع، لكنه لا يضر المجتمع، وقد يفتخر المجتمع بظهوره وهذا لا بأس فيه.

المثقف المتواضع:

وهو المثقف الذي يعيش مع الناس كأحدهم، يذهب ويأتي معهم، حاضر في السوق وفي المناسبات وفي الشارع وفي كل مكان. فهذا النوع من المثقفين عادة يحظى بإحترام من الناس لحسن تعامله مع الآخرين ولتواضعه، وهذا له دور كبير في تغيير المجتمع بطريقة غير مباشرة، وقد يكون مثلا أعلى للكثير من الناشئة في المجتمع. وهذا المثقف نفعه كبير للمجتمع، إذ أنه يمارس دوره كمثقف بطريقة عملية، وهذا يساهم في دفع عجلة الرقي للأمام بهدوء، لكنها محصورة فقط في محيطه، فتأثيره رائع لكنه محدود.

المثقف العامل:

وهو المثقف الذي ينخرط في النشاطات الإجتماعية، يشارك فيها أو يقودها، وهذا لعمري مثال المثقف الواعي، فهو يدرك أهمية التغيير قولا وفعلا، ويأخذ على عاتقه المسؤولية، فتراه ينبري لكل ما يهم المجتمع، يعمل جاهدا في التغيير والتوجيه ولا يبالي لا بالقال ولا بالقيل. وهذا النوع من المثقفين هم عماد التغيير، فهم في الميدان يدفعون عربة التغيير بأياديهم ولا يهمهم إن إتسخت أياديهم أو نالهم شيئا من التعب والعرق، ولا يسمعون للمثبطين، همهم الإنجاز. بهؤلاء المثقفين تنعقد الآمال، وهم بلا شك معرضون للإنتقاد ومعرضون للأخطاء، وللكلام الجارح، لكن همتهم أعلى وأهدافهم أسمى. فهؤلاء هم الشموع التي تنير طريق المجتمع، كي يتقدم.

المثقف الكارثة:

وأخيرا نصل الى المثقف الأعجوبة، الذي لا هم له الا أن يكون عودا في عجلات العربة. فإذا ابتلي مجتمع بهكذا مثقفين، أصابه الإعياء والترهل، وصعب عليه دفع العربة الى الأمام، وحتى نتعرف على هذا النوع من المثقفين سنضرب بعض الأمثال، ربما ننجح لتسليط الضوء عليهم لتنبيههم أولا، وليتعرف المجتمع عليهم ثانيا، فلا يضيع وقته معهم فهم يؤخرون ولا يقدمون.

هذا النوع من المثقفين يصعب عليه رؤية الصورة الكبرى، يرى الأشياء في حيزها الضيق، فلو رأى شخصا يميط الأذى عن الطريق، كرفعه لحجرة صغيرة من قارعة الطريق، يتهكم هذا المثقف على هذا الشخص كون عمله لا ينفع، وأن إبعاد حجرة صغيرة من الطريق المليئ بالأحجار لا يعد عملا طيبا، فيتوقف هذا الشخص عن فعل الخير بفعل الكلام الغير مسؤول لهذا المثقف.

في نظر هؤلاء المثقفين أن المصلحة العامة تأتي ثانيا بعد المصلحة الشخصية، فحساباتهم دائما تأتي مختلفة عن باقي المثقفين، فهم في هذه الحالة أسوأ من جميع المثقفين حتى المنعزلة منهم.

لديهم قدرة فائقة على التنظير، وبعيدي كل البعد عن الواقع، فتقويمهم لعمل الآخرين دائما يأتي بالسلبية، ولا يعرفون للتشجيع من طريق. ومن صفات هؤلاء المثقفين أنهم يرون أنهم قطب الرحى، واليهم وحدهم ينبغي أن تؤول الأمور.

فلو ترجم شخصا مقالة من لغة أجنبية الى العربية، علق عليها قائلا: نحن نعرف هذه اللغه فلا داعي لهذه الترجمة. ولو أن جماعة تطوعية من المجتمع قامت بعمل نشاطا معينا، يأتي هذا المثقف وفي دقائق يمر على هذا النشاط ويصدر الأحكام: ما هذا؟ لا شيء جديد.. وبوجه عبوس يقول... لا يستحق هذا العمل عناء المجيئ اليه. ومن حيث لا يدري يقضي على حماس الشباب، وفي ثواني يدمر أيقونة عمل، المجتمع بأمس الحاجة اليها. وفي نفس الوقت إذا ما تم دعوة هؤلاء لأي عمل إجتماعي، يرفضون التعاون وبحجج كثيرة. البعض من هؤلاء المثقفين يشترط على الآخرين أن يأتي دوما بفكرة جديدة وجريئة ومبهجة وملهمة وصانعة للفرح، هذا شيء جميل في ظاهره لكنه «أي المثقف الكارثة» يضع أعوادا في عجلات العربة وهو لا يدري، فلا يمكن لأي فرد من المجتمع الإحاطة بكل هذه الإشتراطات بدون قاعدة وأطر ينطلق منها، شجعه في البداية وهيئ له القوالب ثم إشترط. التشجيع على القراءة وإبداء الرأي على ما يكتب او يقام من نشاطات في المجتمع هي من مسؤولية المثقف، بل مسؤوليته أبعد من هذا، فواجب المثقف الحفاظ على بُنى التفكير الأساسية في المجتمع، فنحن بحاجة الى مثقف عامل عالم موجه، لا الى مهاجم للمحاولات في مهدها ولا الى منفر للمبادرات قبل إستكمالها.

آخر السطر

قد يتنقل المثقف من نوع لآخر بقصد أو بدون قصد، لكن ولله الحمد تبقى أكثرية المثقفين في مجتمعاتنا بين المتواضع والعامل، ولهذا نحن بخير. المثقفون الكارثة أعدادهم قليلة ومعظمهم يتصرفون بحسن نية، وقد ينتبه المثقف الكارثة في أي وقت ويتموضع من جديد ويصبح عاملا ومعطاء، لكن تبقى خطورة هذا النوع اذا كان أحدهم يملك ”كاريزما“ تساعده على الهيمنة على مثقفين آخرين ويقودهم بالصوت العالي وبالضجيج الذي ظاهره التميز، فينخدع البعض به ويظنه ”المحرك“، بينما في الحقيقة أن باطنه صنع المزيد من الأعواد في العجلات. نأمل من الجميع أن يكونوا محركات تدفع عربة المجتمع الى الأمام، لا أعواد تعرقل عجلاتها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
أحمد ن
[ القطيف السعودية ]: 15 / 10 / 2020م - 9:32 م
موضوع جميل جدا.. والواجب على المجتمع كشف المثقف الكارثة قبل فوات الاوان