خبز أمي
من تحت خط الفقر إلى أعلى المراتب العلمية..
عصامي بنى نفسه بنفسه..
توفي أبوه فتركه وأمه والوحدة الخانقة..
كان ما يصرف لهم من مرتب أبيه بعد وفاته يكفيهم عشرون يوما أو أكثر بقليل..
لكنه لم يستسلم..
لم يبكي حظه..
لم يبنِ له قصرا من رمال ولم يعش في الأحلام..
قرر أن يكون رمزًا فصار..
حفر في الصخر.. وتسلق الصعاب.
تسلح بالإصرار معتمدًا على الله، ويؤازره دعاء أمٍ لوحيدها الذي تحب.
بهذه الكلمات قدم المذيع ضيف اللقاء.. وأضاف: معنا الآن العالم الذي رفع اسم بلادنا في أعلى قوائم الجامعات والمحافل الدولية.. الدكتور السيد علوي.
يمشى الدكتور خطوات لمنتصف المسرح، والصالة تضج بالتصفيق والهتاف.
ويقف شامخا مواجها للجمهور.
رجل خمسيني، نحيل..
ليس بالطويل وإن كان للطول أقرب..
أسمر البشرة، جميل الملامح، لحيته مرتبة بعناية..
ثوبه ناصع البياض..
يتحرك برشاقة واتزان..
ويتكلم بثقة والابتسامة لا تفارق وجهه.
تحدث عن طفولته قبل أن يتحدث عن نجاحه، فمنها بدأت مسيرة النجاح.
قال بكل هدوء: كان مرتب أبي رحمه الله يكفينا عشرون يوما أو أكثر بقليل.. وباقي الشهر نأكل الخبز مدهونا بالوجع أو الخبز مغموساً في اللبن الرائب «الزبادي» الذي تصنعهما أمي في البيت.
رغم ألم الحاجة ووطأة الفقر رفضت أمي أن تمد يدها لأحد، ولم تقبل صدقة يوما ما..
أتذكر أن جارتنا أم علي زارتنا يوما ودعت لأمي بمبلغا من المال صدقة فرفضتها وقالت لها: أم علي.. أني سيدة وولدي علوي ما ناخد صدقات.
عملتْ لها تنورا تخبز فيه ما نحتاجه من أرغفة..
وكانت تدّعي أنها تناولت وجبة الغداء قبل أن أعود من المدرسة.. وكنت أعلم أنها لم تطبخ غير هذه السمكة وهذا الرز.
كنت رغم ألم الجوع أتسلل في الصباح إلى باب الخروج وقبل أن أغادر أرفع صوتي مودعاً فتلاحقني بصوتها الرقيق وتنادي: تعال لتفطر.. لكنني أصم أذني لأنني أعلم أنها لن تأكل شيئاً إن أنا أكلت ما أعدته للإفطار، وأكثر من مرة كنت أكتشف أنها تدس قرصاً مما تخبزه فجراً في حقيبتي.
في بعض الأيام كانت تقدم لي أمي الطعام وتقول: كل يا ولدي فإنني لا أشتهي الطعام الآن.
كانت تقول وابتسامة رضا تعلوا محياها: إذا شبعت يا ولدي فإنني أشبع.
ولم أعرف حقيقة هذا الشعور إلا عندما رزقني الله بأولادي.
ذات يوم أفصحتُ لها عن رغبتي بترك الدراسة والعمل من أجل مساعدتها.. فنفضت يدها من العجين، ولوحت بيدها في وجهي رافضة الفكرة رفضا قاطعاً.. وأقسمت عليَّ بحبي لها أن أكمل دراستي وأن أتفوق لأعوض تعبها بالمركز العلمي المرموق، وفي ذات اليوم احترقت يدها وهي تخبز أرغفةً للعشاء وصرخت من الألم، لكنها قالت: لا تخف.. لقد احترق الخبز فقط..
توقف لحظات عن الحديث وأجال بنظره بين الحضور.. ثم قال بحزم: يوم ذاك أقسمت أن أكون ابنها الناجح لكي لا يحترق خبزها مرة أخرى.