آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

مقال «الحقيقةُ لا تلتقطها الكاميرا!»

كمال بن علي آل محسن *

كثيرًا ما نشاهدُ صورًا متنوعةً التقطتها الكاميرا لأحداثٍ ومناسباتٍ ووقائع، تُشَكِّلُ لدينا انطباعاتٍ وتصوراتٍ وآراء وأحكامًا حول تلك المشاهدِ ذات الصورِ الجامدة، ولكن هل ما تلتقطه الكاميرا يمثلُ الحقيقة ويجسدها بكل تفاصيلها وخباياها، أم أنَّ الأمرَ لا يعدو كونه زيفًا وكذبًا، ولا يمت بصلةٍ لعالمِ الحقيقةِ الذي لا يميلُ لجهةٍ معينة، ولا ينتصرُ لأحدٍ مهما كانت مكانته أو موقعه في خارطةِ عالمِ الإنسان؟!

إنَّ مَنْ يحملُ الكاميرا؛ ليلتقطَ بها الصورَ لا يمكنه أنْ يلتقطَ المشاعرَ الواقعيةَ التي صاحبت تلك الصور، ولا يمكنه كذلك أن يعرضَ الأسبابَ التي أدت لتلك المشاهد، فهو يختارُ زاويةً تناسبُ الجهة التي أرسلته إن كان تابعًا لجهةٍ معينة، أو يختار زاويةً تناسبُ قناعاتهِ وأفكارهِ إن كان مستقلًا ولا يتبعُ أحدًا سوى نفسه التي تحركها سلسلةٌ من الخبراتِ التي شكلت صاحب الكاميرا.

هناك بونٌ شاسعٌ بين حقيقةِ الأمور والكاميرا التي التقطت تلك الحقيقة، ومع بالغ الأسى، فإننا نتعاملُ مع الصورةِ وكأننا كنّا في قلبِ الحدث، إن لم نكنْ جزءًا منه وأحد أبطاله، فنعطي حُكمًا صارمًا لا مرية فيه حول ما حَكَتْهُ الصورة، بل ونُصَدِّرُ آراءَنا في كل القنواتِ وعلى مختلفِ الأصعدة، كل ذلك من أجلِ صورةٍ شاهدناها على عُجالةٍ ودونَ تركيزٍ أو تدقيقٍ وتأمل، وقد تكون بمنأى عن الواقعِ الذي حدث بالفعل.

إنَّ محاولةَ المجازفةِ بنقلِ الحقيقةِ للآخرين عبر الصورةِ يحتاجُ إلى احترافيةٍ نادرةٍ لا تتوفر عند الكثيرين، كذلك فإنَّ الصورةَ لا بد وأن تلاحقَ وتتاليَ الحدث لحظة بلحظةٍ دون انقطاعٍ أو انفصال، وفِي أدقِّ التفاصيلِ ومن كل الاتجاهات، فلا تترك شاردةً ولا واردةً إلا وتكون قد التقطتها؛ حتى تكون الصورةُ مصداقًا وتجسيدًا للحقيقة وتوأمها، وهذه العملية صعبةُ التحققِ بعيدة المنالِ إن لم تكن مستحيلةً وغير ممكنةٍ على مستوى الصورة فقط.

صاحب الكاميرا في محاولةِ التقاطه للحقيقة المجردةِ والمكتملةِ الأركانِ والشواهدِ يدركُ تمامًا بأن هناك الكثير من التفاصيلِ ستكونُ مفقودةً في صورته؛ مما قد يشوشُ أو يُغَيِّرُ في معرفتنا لتلك الحقيقةِ التي يحاولُ إبرازها لنا، بل وإقناعنا فيها، مع سابقِ علمهِ ويقينهِ بأن الصورةَ ستظلُ ناقصة، وأن المشهدَ أو الحدثَ فيه الكثير من الأشياءِ المخفيةِ غير الظاهرة، فهي موجودة وإن كانت خلف الكاميرا، لكن صاحبها قرر عدم إظهارها ربما متعمدًا أو غير متعمد؛ لحاجةٍ في نفسه أو لأن تلك التفاصيل لا تعنيه، أو أنها تتنافى وتتنافر مع قناعاته التي يريدُ أن يسقطها على الصورةِ التي تنقلُ الحدث.

يجب علينا أن نفرقَ بين نقلِ الانطباعاتِ الشخصيةِ والمشاعر الخاصة والقناعات التي نعتقدها ونؤمنُ بها وبين نقلِ الحقائقِ مجردةً من كل ما يشوهها ويغيرها ويبدلها، فمن الواجب علينا أن نكون أمناءَ وصادقين في نقلها، وأن نتحلى ونتصفَ بدرجةٍ عاليةٍ من المصداقيةِ أمام أنفسنا والناس أجمعين؛ حتى تخرجَ الحقيقةُ كما حدثت في الواقع.

الحقيقة والكاميرا ليستا مترادفتين ألبتة، ولا يمكن للكاميرا أن تلتقطَ الحقيقةَ كاملةً تامة، قد تلتقطُ جزءًا منها وليس كلها، والجزء لا يعني الكل قطعيًّا وإن كان بعضًا منه أو ينتمي إليه.