آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

الشعر الحسيني المعاصر رؤىً مختلفةٌ.. «4»

علي مكي الشيخ

أنْ تنمو على عتباتها غصنًا ممسوسًا باللاهوت، أن تؤرشف رذاذ ذاكرتها على بياضِ ابتكارها وعيًا في خزائن الملكوت، أنْ تُدَوِّنَ نقش خاتمها على ساقِ الكبرياء لغةً ممهورةً بمضادات الفناء عابرةً جرار العدم إلى جنائن الخلد في سدرةِ الدهشة الراقصة بالجمال والخلق المبتدع لتكون مهيّأ لدخول تراث السماءِ الكربلائي..

فما زال الإبداع الحسيني يجذِّرُ رؤاه عبر صفحات الزمن رغم تقادم الأيام القاحلة إلَّا أنَّه يستمدُّ مدَدَه مِنْ ضرعين فارعين.

الماضي العريق والحاضر الفارع، فالشعر الحسيني والولائي كُتِبَ بالكثير مِنْ الجهود المضنية الكبيرة والتي أفرزتها عبقرية الشاعر الأول في كل جيل ارتشف الوعي في تأسيس مراحل الكتابة الولائية ويستحضرني هنا ما صرَّح به شاعرُ الولاء الكميت بن زيد الأسدي يقول راويته، محمد بن سهل: أن هذا كان يقول:

" إذا قلت الشعر فجاءني أمرٌ سهلٌ مستوٍ لم أعبأ به حتى يجيء شيءٌ فيه عويص فأستعمله.. وكان يقول:

”إِني، إِذا قلت، أحببت أَنْ أُحسن“

وقد قيل له: ”إنك يا أبا المستهل كالجالب التمر إلى هجر“!

فأجاب: ”ولكن تمرنا أجود مِنْ تمركم“

هنا نحن أمام قامةٍ شعريةٍ كأنه علم في رأسه نارٌ يقول عنه صاحب الخزانه: ”قال بعضهم في الكميت خصالٌ لم تكن في شاعر كان خطيب بني أسد وفقيه الشيعة.. وكان نسّابة، وكان جرئيًا“ وهو بهذا الحجم من المكانة العلمية والأدبية وهو يصرِّحُ عن منهجِهِ في الكتابةِ الشعريةِ وتوخيهِ العويص والسامق مِنْ المعاني الشعريةِ.

وموقف آخر مِنْ تراثنا الشعري يكشف النقاب عن حضور الحس النقدي لدى الشاعر الولائي حيث ينقل الشيخ الأميني في غديره أن السيد الحميري اغتاض مِن الشاعر جعفر بن عفان الطائي حين قال:

ما بال بيتكم يُخرَّبُ سقفه وثيابكم مِنْ أرذل الأثواب

فقال له السيد ويحك أتقول في آل محمد ﷺ شرًّا

فقال جعفر: فما أنكرت مِنْ ذلك؟ فقال له السيد: ”إذا لم تُحسن المدحَ فاسكتْ“ أيوصف آل محمد بمثل هذا؟ "

لاحظنا كيف حافظ شعراؤنا الأوائل على مستوى الشعر الولائي تارة باتخاذ المنهجية الحرفية العالية والفخمة وتارة بالنقد الواضح ورصد عدسة الناقد الناصح والعاتب على كل مَنْ لم يُحَكِّمْ أَدواتِهِ الفنية والأدبية فبمثل هذه المواقف الراسخة والرصينةِ شهدنا أدبًا حسينيًا متينًا ومازلنا نحتاج لتلمس حقيقة العمل الأدبي بالكثير من الاشتغال والحرفية العالية وما أجمل ماكتبه الأستاذ جاسم المشرف في إحدى أوراقه النقدية للشعر الحسيني أقتطف منها بعض الإشارات:

- ”نعاني مِنْ قصدية تسطيح الخطاب الحسيني لدى بعض الجهات وهذا الخطاب ليس عن الشعر ببعيد“

- ”ومنْ جهة أخرى رسمت الكثير من القصائد الحسينية بعين رأت الحدث ولم تَرَ ما وراءه وما قبله وما بعده، وأسقطت صدى أوجاعها وانكسارها على شموخ السماء، وثأر الله..“

”نحن بأمس الحاجة للقصيدة المثقفة الواعية التي تعيش حقيقة الحسين وحركته بخيال خصب وأدوات أسلوبية متجددة“

”إنَّ الاتكاء على تجارب أدبية سابقة دون القراءة الواعية للسيرة والحدث التاريخي والواقع الحياتي لن ينتج إلا صدى مشتتا لصدى الآخر..“

”درجة وعي المبدع تشكل بنية قصيدته..“

وتحدث مفصلاً في مقارنته عن خلود النص الحسيني وأسباب عدم نجاح النص الذي لا يتكئ على الوعي والانفتاح والعمق.

بعد هذه الجولة والاطلالة السريعة في تراث النص الولائي والوقوف على بعض صفحات الشعر الناقد واللغة الواعية في سبيل المحافظة والرُّقي على ألق هذا التراث الحسيني أدخل بعدها لاستكمال ملامح وخصائص الشعر الحسيني المعاصر رؤى مختلفة.

* الملمح الأول: حضور الوعي والعقل في النص الكربلائي:

هنا سنلحظُ بعض التجارب المعاصرة كيف مارست اللغة الناقدة بحضور الوعي وإبراز دور العقل في التعامل مع قضية الطف وتناول أحداثها بالكثير مِنَ الجمال والإبداع المتلازمين والمتحزمين بالعقل وأقف مع أولى النماذج ومع الشاعر الأحسائي أحمد اللويم وفي نصه ”نبوءة جرح“

أكثِّفُ في مرآةِ وعيي رذاذهُ
لينزاح شَكٌّ في مراياي عربدا

فها هو يتكئ على سياج الوعي في رسم مراياه ورؤياه مقاومًا سحب الشك حين تعربد.. ويقول:

رميتُ ببئر الغيب دلو تساؤلي
عن الطف لكن عاد لي الدلو مجهدا

وهل ”كربلاء“ يعصى على العقل فهمها؟!
لتفتح لي بابًا مِنَ الوهم موصدا؟!

جَرَتْ ”كربلا“ في الرأس أول فكرةٍ
بها العقلُ حاز الفهم فاللهَ وحّدا

هناك بدت لي ”كربلا“ فوق ماروى
لِيَ «الوعي واللاوعي» شكًّا ووكّدا

ركَضْتُ إليها في دمي ماورثتُهُ
مِنَ العشق حتى عن جدودي تفصَّدا

وجاوزتُ أُفقًا قد تسنَّم ظَهْرَهُ
مِنَ الليل أعمى لا يرى النجم مُرْشدا

وأبحرتُ في التاريخ والوعي قائدي
أشقُّ به موجًا مِنَ الشك مُزبدا

وفي برزخٍ ما بين حُلْمٍ وصَحْوَةٍ
وقفتُ على جُرْفٍ مِنَ الحدسِ أرمدا

هناك بمرآة النهى شَعَّ بارقٌ
أذاب ضبابًا مِنْ ظنونٍ وبددا

وبعضُ الذي مازال يحملُ ثِقْلَهُ
أمينًا عليه «الوعيُ» حتى تأَوّدا

هنا ”كربلا“ تأبى وصاية دمعةٍ
فنحبسُ عن عينٍ مِنَ الوعي مُسهدا

هنا ”كربلا“ للعقل مسرى انعتاقه
لحريةٍ تفضي به لو تجرَّدا

لاحظنا كيف احتفى الشاعر اللويم بأهمية حضور العقل والوعي الناقد وعدم الاستسلام للوهم والشك في الدخول لحرم كربلاء فهي شاهدة على كلِّ وعي وانفتاح على مداليل المعرفة وشرف الكمالات العقلية:

ومع النموذج الثاني في تلمس الرؤية العقلية ومع الشاعر البحريني حسين العابد في نصه ”دربٌ معتقٌ بالخلود“ يقول:

اخلع عن الدرب المقدس ظلمة ال
عشقِ المغفلِ - ما أراك تكابِرُ

اركض بعقلك، فالمسافةُ طولها
جَهْلٌ بعكّزُهُ اعتقادٌ سادرُ

هذا الحسين صديقُ مَنْ أَلِفَ السما
ءَ وجادَهُ في الحبِّ وَغيٌ ثائرُ

يفتح العابدُ نافذة الوعي على الحدث الكربلائي بعدسة حذرة وواثقة، فالدرب المقدس قد يكون ظلمة إنْ دخل دهاليز الغفلة إذا طالت المسافة دون الاحتفاظ بضوءِ العقل، فلا بد للحبِّ الطاهر أن يلازمُهُ وَعْيٌ ثائرٌ ضد شوائب الجهل.

أما نموذجنا الثالث في هذا الملمح سيكون مع الشاعر علي واصل الدندن الأحسائي في نصه ”حُلُمٌ للطين الغافي“

حيث يضع مبضع النقد على جرح الجهل والغفلة ليحقن مسيرة العشق بإبرة وعي مضادةٍ لأكسدة الأرواح العالقة بسياج الأوهام والتيه المغلف بالبياض.. فلنستمع إليه بإنصاتٍ..

هيَ لحظةٌ للعين لا لدموعها
وحكايةٌ للسيف دون نِجادِهِ

ألقى بها في الوعي أَوَّلُ حالمٍ
أحنى ضمير الأرضِ ثِقْلُ مُرادِهِ

والله فكرتُهُ العليةُ لم تزل
خيلُ العقولِ تجِدُّ خَلْفَ طِرادِهِ

لا تطلبوا ربَّا بأطراف السّما
فاللهُ يسكن في قلوب عبادِهِ

هي لحظة الإنسان شَفرةُ وعيه
تأتي لتغرز خنجرًا بِرُقادِهِ

أعلى سفوح الروح شمعة عقْلِهِ
ليثور منقلبًا على جلَّادِهِ

يا أيها الإنسانُ.. أعني أيها ال
طينٌ / السماءُ / الفردَ في أضدادِهِ

يا أيها المقبورُ أعني أيها ال
مولودُ داخلَ غرفةِ استعبادِهِ

عُدْ للحسين فليس ثمَّةَ فكرةٌ
إلَّا استحمَّتْ في دماءِ حيادِهِ

ما الكائنُ البشريُّ دون كفاحِهِ
إلا الفتى العربيّ دونْ ”سُعادِهِ“

سافرْ هناك مع الذين تشبثوا
باليأس واقتلعوه مِنْ أوتادِهِ

اتضح لنا جليًا دور الشاعر المعاصر وهو يمارس دور حارس الوهج الكربلائي ومكتسباته هذا الإرث الثقافي والعقدي الكبيرين عبر حضور المعجم اللفظي والحس النقدي في إعلاءِ ذائقة الجمال الواعي وارتقاء العقل الرؤيوي ليُحَصِّنَ هذه المسيرة عن أيِّ زيفٍ وزيغ ماسكًا بخيطٍ رقيق بين الفنية والخطاب الشعري داخل النص الكربلائي.

* الملمح الثاني: بين الشاعر والحسين تبادل أدوار:

هكذا نجد الشاعر الحسيني المعاصر يتقمص دور البطل ويتلبسُ بحركته فيخلع عليه كلَّ ماجرى في ساحة الطف متماهيًا بكله مع ذاكرةِ الألم ليصبح الشاعرُ هو الحسين يتلقى السهام ويسقط على تراب الوجع وتجري عليه خيول الظليمة

بين يدي قصيدة رائعة تعكس ظلال هذا الملمح للشاعر البحريني محمود عبد المحسن القلاف بعنوان ”العابر العاثر“

فلنقرأ له مِنْ أبياتها ما يمثل هذا المحور بشكلٍ جليٍّ ورقيق..

أنا كنتُ ظلي في الطفوفِ
منحتني شكلي وروحيَ مذ رحلت
فلم يزل طيف الحسينِ على أناي يكرَّرُ
فمددت نحري دون نحرك ياحسين ويبتَرُ
ونسجتُ أضلاعي عليك كبردةٍ
حتى إذا مرَّت خيول أميةٍ
فأنا وأنت على الثرى نتكسَّرُ
رفعتك زينب للسماءِ سحابةً
فهطلت منك على التراب أُبعْثَرُ

وعند تأملي في هذه الزاوية وهذا الملمح مَرَّت بخاطري قصيدة الشاعر الكبير جاسم الصحيح ”رحلةٌ في جرح الحسين“

حيث تمثل هذا الدَّور متلبسًا جرح الحسين ومسرح الطف على جسده وهو يغامرُ في معركتهِ النصية يقول في أبياته:

هنا في دمي بدأت «كربلاءُ»
وتَمَّتْ إلى آخر المصْرعِ

كأنك يومَ أردتَ الخروجَ
عبرت الطريق على أضلعي

ويوم انحنى بك متنُ الجوادِ
سقطت ولكن على أذرعي

ويوم توزَّعْتَ بين الرماح
جمعتك في قلبي المولع

إلى أن يصل إلى تبادلِ الدور فيخلع على الحسين دور الإبداع وأنه يلون الحياة بريشةِ فنّه دون إصبعه المبتور.

فما أبصرت مبدعًا كالحسين
يخطّ الحياة بلا إصبعِ

وينهال قصرُ الخيالِ المهيبُ
على حيرةِ الشاعر المبدعِ

ويقول في نص آخر تحت عنوان ”جرح يتدفق في نهر أبديتهِ“

بين «المخيمِ» و«الفرات» إِخالني
أسعى بِمُهر قصيدة، وأُطوِّفُ

وأنا أخرُّ على البياضِ مُضَرّجًا
بالنًّص حيث دَمُ الشهادةِ يرعفُ

عيناي آخر خيمتين ب «كربلا»
محروقتين بهاجسٍ لا يُذْرفُ

ولا يسعنا سوى أنْ نختزل النماذج المتكاثرة في هذه النافذة التي أوسعها الشعراء دِقَّةً وبراعةً لنحاول أنْ نسدل الستار على ثنائية التبادل بوصف الحسين شاعرًا أو وصف الحدث الكربلائي بالنص البلاغي التكويني نقرأ للشاعر اللبناني محمد باقر جابر مِنْ نصه ”نبوءة العاشق الأول“

حَبَبْتُك مُذْ أَطْلقْتَ كَفَّيك شاعرًا
غيورًا على المعنى خفيفًا بلا ظِلِّ