مكان في كل الاتجاهات
أخرج من كل المدن وأهجر القرى والأماكن وأقصد إلى من خطف قلبك وسلب عقلك..
لا تلفت للوراء فالطريق تحت قدميك طويل وفي فؤادك قصير، مد بصرك إلى شلالات الأنوار، أحمل بكفك تراب الطهر إلى مكان الدفء السرمدي، فزمانه يلهب الشعور ويخصب البدن ويسمو بالروح، ينتهي التاريخ به كما بدأه.
العلاقة الروحية مع الرموز تنمو زمانياً كلما تعمقت في معانيهم وصفاتهم السامية، يتسع الفكر كلما تعلقت بالرمز المضحي، وطالت العين بالنظر في شعاع نوره الصاعد إلى السماء، لا يسأل المحب عن أسباب حبه ولا يعنيهه كل علامات الأستفهام كلما اشتد حبه وهام بالحبيب، يتوق للتعبير عن هذا الولاء بعدة طرق خصوصا إذا كان المعشوق يحدد هوية المحب ويمثل أحد رموز عقيدتيه، التعبير بالولاء والحب تتم بكل الأوقات والمواقع، للمواسم مناخاته وشعائره عند التعبير للمحبوب، وللمكان أضاءاته وآثاره حين يترجم العاشق له بالولاء، للجاذبية طقوسها المترجمة حركيا لا شعوريا، تتوقف الخطوات وتكمم الأفواه وتحبس الأنفاس إلا أقدام تزحف على الرمال طلبا للغفران،
للزمان روح تخلق جو الأنسجام بين المحب والمحبوب وللأطلال حرم يقشعر فيه بدن الساعي يرتل كلمات السعي حين ساعة الولوج.
علماء الفيزياء يقولون أن هناك علاقة بين المكان والزمان من خلال الحركة «المشي» فالانتقال من مكان إلى آخر له مدة زمنية، إنشتاين يرى الزمان والمكان نسبيان، فكل إنسان بمقدوره يلاحظهما ويشعر بهما حسب إدراكه وما يرى فيهما من ذكريات وارتباط بهما وبشخصياتهما.
الكائنات الحية تشعر بالزمان والمكان من خلال تغير الجو، تجد الطيور تحلق في الفضاء وتهاجر مسافات طويلة على شكل أسراب ملفتة وجاذبة تسبح بالفضاء تنتقل من مكان إلى موقع مُستهدف بمدة محددة تمكث فيه فترة معينة لأن المكان حاضنة لاستمرار حياتها، تعتبره موقع مقدس فهو مصدر الأمان والدفء والغذاء. يستمد المكان قدسيته من خلال معلمه وبطله كما يسموه كتاب الرواية والنقاد، وللزمان خصوصية مقدسة إذا سكنه رمز، يتضمن أفعال وأقوال ودلالات تجذب الزائر، مثل الحج زمان ومكان ومدة محددة يرتبط بها الحاج يؤدي فيه مناسك الحج والعبادة التي تتضمن مشي وحركة بمكان محدد وزمان معين.
سيموطيقيا المكان تختلف النظرة لها من شخص إلى آخر، في جماعات مسكونة بالمكان وذاكرتها مملوءة بحدث ورموز المكان وبآثارها وأطلالها، المسكون بالمكان ورمزياته ذاكرته حية يبقى خياله متعلق بعلاماته وبما يذكّره وينعشها، فكل مكان له أحداثيات وأبعاد مادية ومعنوية يعرف بها ويستدل بها حين التوجه إليها، فالموقع يتميز ويسمو بأشخاصه وبما قدموا.
تتعزز العلاقة برمز المكان لما يحمل من رسالة وأهداف ومعاني، بعض المواقع تصبح لدى مرتاديها مقدسة تتلهف أليها القلوب مع تراكم الزمان، فكيف برمز مكان وزمان نصت عليه نصوصا دينية وعلى خصوصية زيارته واستحباب احيائها بالشعائر.
كل مكان يتكلم بما يحتويه ويتضمنه من أرواح مادية ومعنوية، يتحدث عن علاماته فالمكان ليس فارغا، فمثل ما يمثل السكن من راحة وهدوء للساكن، تبقى الأطلال قائمة في ذاكرة من ترتبط به بعلاقة روحية متحركة، رموز المكان ملتصقة بالفؤاد، صور الحيز تتجدد بالذهن، والخيال يزداد خصوبة كلما تعلق به القلب، كما أن الفلاح يقدس مزرعته لأنها مصدر رزقه التي وطئت قدمه في ترابها وامتزجت طينتها بيديه، فمكان الشهيد والمضحي مقدس بروح من استشهد، كما هو في قبر الجندي المجهول الذي يعتبر رمزا لكل الشهداء للجماعة وللوطن، يزار سنويا من قبل المحبيين والوفود الرسمية فهو مصدر إلهام بروحه وبما قدمه من تضحية ليبقى غيره كريما مصانا.
المكان التراثي له أصل في الشعر العربي بأيحاءاته ودلالته للشاعر من خلال اللقاءات مع من يحب ويعشق أو ذكرى رمزية لبطولات البطل تمثل ساحة شجاعته وكرامته وإيبائه، المكان يشتم منه روح الأنسنة والتضحية ويمثل المبادئ الدينية والقيم الإنسانية، المكان يتحرك ويمتد بأحداثه وتداعياته وشخوصه الأبطال، بعصرنا الحالي بعدما عمرت مساكن ومدن أبيدت بحروب مثل هيروشيما لكن بقيت آثارها تحيا ذكراها السنوية بشهدائها وبدلالاتها.
المكان ذاكرة حية ناطقة موثقة نداءات أصحابها ومسجلة صدى شهدائها ينادون من سكنوا في قلوبهم وبمخيلاتهم، يروا في الشهادة روح باقية ممتدة ببقائهم وسر عظمة كيانهم وتمثل هويتهم الجماعية تحكي عن عقيدتهم، فيسافروا لها مشيا ويتحركوا بزمان ومكان معروفين بالمشي المقصود والمعنون بروح الشهادة والفداء والتضحية ينشدوا السلامة الروحية والتصالح مع النفس وبحب الآخر.
المتخيل الجمعي يعاضد بعضه البعض يعزز ما فهمه المشاة من مناجاة وأدعية ونصوص دينية تحث على الأمتثال للفعل العبادي بشكل جماعي، الحدث الجمعي فيه قوة تماسك وتشجيع للممارسين الفعل يتحركون بأجسادهم وتلهج ألسنتهم وتنبض قلوبهم على وقع أصوات أفواههم وأقدامهم.
بحضور الحشود إلى أرض كربلاء بالأربعين يرتوي جذور الارتباط بين الزمان والمكان وتنمو العلاقة برمز المكان الإمام الحسين .
يعبر بالمعنى إرفنج جوفمان عندما يكون الشخص في مشهد جماعي فإنه يجتهد لأستكشاف حقيقة الموقف من خلال الآخرين، الآخرون ينجذبون لمظاهر الواقع الجماعي وما يتضمن بأنبهار حتى لو لم يدركوا كل معاني الحركة والسير، كلما امتد الزمان تنكشف أسرار المكان ببطله ورمزيته حين يغلق الكل على أنفسهم حفاظا على أرواحهم لكن هناك من الرموز الذين يعبر لهم العاشقون في الزمن الاستثنائي لينشدوا موقعا فريد بخصائصه تبرز المعاني السامية في مشيتهم اتجاه المحبوب.