السياسة بين عصري الأنوار والتنوير
يشير معنى الأنوار إلى عصر الانبعاث الذي شهدته القارة الأوروبية، ابتداء من القرن الخامس عشر، وما نتج عنه من تطور على صعيد الفكر والفلسفة والأدب والفنون. وكان المقدمة اللازمة لاندلاع الثورة الصناعية، أما التنوير، فنعني به ما تمخض عن حركة اليقظة العربية، من تطور فكري وأدبي، وانفتاح رحب على العلوم الإنسانية.
والقاسم المشترك بين العصرين، هو اهتمامهما، بترجمة علوم الأولين والآخرين، حيث ركز عصر الأنوار على ترجمة فلسفة الإغريق، وركز عصر التنوير على ترجمة أفكار عصر الأنوار الأوروبي.
في المجال السياسي، ركز عصر الأنوار على العلاقات التعاقدية، وبشر بانبثاق أنظمة سياسية تعتمد أركاناً ثلاثة: تشريعي وتنفيذي وقضائي. في حين تعثر المشروع السياسي لعصر التنوير.
ويجمع المؤرخون، على أن الثورات الاجتماعية، التي اشتعلت في القارة الأوروبية، وخاصة الثورتين الفرنسية والإنجليزية، هي نتاج فكر عصر الأنوار. وقد بلغت أصداؤهما، وتأثيراتهما أركان المعمورة.
وقد دفع تطور الأحداث، وصراع الثوار في فرنسا بصناع القرار لتصدير الأزمات الداخلية التي تعانيها الجمهورية الفرنسية الأولى إلى الخارج، بعد أقل من عشر سنوات على قيام الثورة الفرنسية. وكان لمصر نصيب كبير من تصدير الأزمة الداخلية الفرنسية إلى الخارج، ففي عام 1798م كانت الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون على مصر. وقد سرعت في الاتصال العربي بالغرب، وبمبادئه ونظمه السياسية. ولا شك في أن محمد علي باشا أسهم بدور مباشر في تعزيز انفتاح العرب على عصر الأنوار، بإرساله بعثات للدراسة في جامعات فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، والتخصص في مختلف العلوم التطبيقية والنظرية.
في المشرق العربي، مع بداية القرن التاسع عشر، برزت حركة تنوير عربية، بأنشطة أدبية وفكرية وسياسية واسعة. وأنشئت الجمعيات العلمية. فترجم بطرس البستاني التوراة إلى العربية، وألف «معجم المحيط»، و«معجم قطر المحيط» و«دائرة المعارف» في سبعة أجزاء. وترجم سليمان البستاني «إلياذة» هوميروس شعراً إلى العربية. وألف ناصيف اليازجي «مجمع البحرين». ونشطت الحركة الصحفية، فصدرت «الوقائع» المصرية في عام 1838م، وكان من أوائل المحررين فيها الشيخ رفاعة الطهطاوي، وشارك في تحرير هذه الصحيفة الشيخ حسن عطار، والشيخ أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين والشيخ محمد عبده.
توالت الصحف العربية في الصدور، في مواقع مختلفة، في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وتونس وإسطنبول. ومن جهة أخرى، برزت دعوات للتحديث، بدأت مع الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي دعا إلى تحرير العقل من الخرافات والأوهام، وإلى دعم العقائد بالأدلة والبراهين وفتح أبواب الاجتهاد، وأنشأ مع الشيخ محمد عبده في عام 1884م في باريس «جمعية العروة الوثقى»، داعياً المسلمين إلى النهوض ببلدانهم، والتحرر من الاستبداد والاضطهاد السياسي. وبالمثل طالب الشيخ محمد عبده بتطهير الإسلام من البدع والضلالات، والتوازن بين العلم والإيمان.
تأثر بموقف الشيخين الأفغاني ومحمد عبده عدد كبير من المفكرين العرب والمسلمين من الأجيال اللاحقة، كان بينهم من لعب أدواراً مهمة في الحياة السياسية والفكرية، مثل مصطفى كامل ومحمد فريد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ طاهر الجزائري والشيخ حسين الجسر ومحمد كرد علي وعبد الحميد الزهاوي ومحمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد بيرم التونسي والطاهر بن عاشور وكثير غيرهم.
لكن فكرة الوطنية ارتقت مع رفاعة الطهطاوي الذي تحدث عن رابطة وطنية، مصدرها اللسان. أما عبدالرحمن الكواكبي فحمل في كتابه «طبائع الاستبداد» على الحكم المطلق والجهل، وأشار إلى أن الاستبداد هو أساس المساوئ، لكونه ينفي العلم ويفسد الأخلاق. ورأى أن العرب أمة واحدة. وأن اللغة هي الرابطة الأولى بينهم.
وهكذا يمكن القول، إن عصر التنوير شهد انبعاث الوطنية الحديثة، التي ارتبطت بمنهجين. الأول، تغلغلت فيه الآراء الغربية في الوطن والحرية والدولة، وقرن ذلك بالفكر السياسي الحديث. أما النهج الآخر، فكان النهج المتمثل في اليقظة العربية، والذي أكد على أن العرب أمة واحدة لها خصائصها، وأن العربية هي الرابطة الأساسية. وقد تطورت هذه الرؤية نظرية وممارسة مع البدايات الأولى للقرن العشرين، مسهمة في اندحار الهيمنة العثمانية، وبروز حركات التحرر الوطنية، التي رفعت شعاري الحرية والاستقلال.
نجح مشروع الأنوار، والعامل الحاسم في نجاح عصر الأنوار، هو وجود الحاضن الاجتماعي والسياسي، وغياب هذا الحاضن في مشروع التنوير العربي، هو ما يسعف في تقديم الجواب عن أسباب السبات العربي الطويل.