لماذا آباء النبي على ملّة إبراهيم الخليل؟
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
في «منتدى الأحساء الثقافي» الذي كان من المنتديات الرائدة على الشبكة العنكبوتية، أرسلت إليّ واحدة من الأخوات الكريمات، رمزت لنفسها باسم: «عشق الحنين» ما يلي:
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
أستاذنا الكريم/ علي محمد عساكر.
كنت في حيرة من عدم وجود أجوبه لدي على أسئلتي، ولكن عندما اطلعت على موضوعك عن «نساء الرسالة وجوابك الشافي فيه» أعطاني الجرأة لإرسال رسالة إليك بالأسئلة، لعلي أجد ضالتي لديك، ونستفيد من علمك، زادك الله نورا على نور.
إن شاء الله ما أثقل عليك، فهو سؤال واحد: بما أن الشرائع الإلهية ينسخ بعضها بعضا فلماذا آباء الرسول وأجداده ظلوا على الحنفية الإبراهيمية، وبقوا على شريعة إبراهيم الخليل، مع أن الله عز وجل بعث من بعده رسلا وأنبياء بشرائع أخرى، وآخرها قبل الإسلام نبي الله عيسى ؟! لماذا آبا النبي ﷺ لا يكونون عليها؟!، لم البقاء على الحنفية؟!
جزاك الله عني كل الخير أخي الكريم، ومعذرة على الإزعاج.
أختكم/ عشق الحنين،،، منتدى الأحساء الثقافي.
فكتبت لها هذا الجواب المفصل، الذي آمل أن يكون جامعا بين المتعة والفائدة، مع ملاحظة أنه لم يخلو من إضافات وتعديلات بسيطة لم تؤثر على جوهره.
أهلا بك أختي الكريمة، وأبدا لا يوجد أي إزعاج، فأنا - هنا - في خدمتك وخدمة الجميع، أما عن سؤالك الجميل فسأتحدث عنه في محاور ثلاثة على النحو التالي:
الأول: تعريف الشريعة، وبيان الفرق بينها وبين الدين.
الثاني: توضيح معنى نسخ الشرائع الإلهية بعضها البعض.
الثالث: سبب بقاء آباء النبي وأجداده على شريعة نبي الله إبراهيم الخليل دون غيرها من الشرائع التي أتى بها من جاء بعده من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ونظرا لأهمية الموضوع من جهة، وعدم وقوفي «بحسب اطلاعي القاصر» على من تناول هذه المسألة وأشبعها بحثا وتحليلا من جهة أخرى، فسأحاول التوسع قليلا لعلّ وعسى يحالفني التوفيق الإلهي في جواب كاف وشاف خصوصا في بيان بقاء كل من كان بعد نبي الله إبراهيم الخليل على ملته صلوات الله وسلامه عليه.
الشرع والشريعة والشرعة كلمات مترادفات، أتى القرآن على ذكرها في آياته البينات.
فقد جاءت كلمة شرع في قوله عز وجل: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾[1] .
والشريعة في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾[2] .
وشرعة في قوله سبحانه: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ﴾[3] .
والشرع - لغة - البيان والإظهار، يقال: شرع الله كذا، أي جعله طريقا ومذهبا[4] .
والشرع مرادف للشريعة، وهي ما شرّع الله لعباده من الأحكام، وقيل: هي السنة والطريق في الدين[5] .
وبه نفهم أن الشريعة تعني سنّ الطريق، وجعله واضحا لمن يريد السير فيه، وتشريع الأحكام يعني سنّها وجعلها لتنظيم حياة البشر.
ربما يمكننا القول بعدم وجود فرق بين الدين والشريعة من الناحية اللغوية، إذ كما أن الشريعة تأتي بمعنى السنة والطريق الواضح، فكذلك الدين يأتي بمعنى العادة والسيرة[6] ، فكل من يعوّد نفسه على عادة معيّنة، وتكون هي طريقته وسيرته في الحياة فهي دينه.
نقول: كان دين العرب وديدنهم وأد البنات، أي عادتهم وطريقتهم.
ولهذا تم تعريف الدين - اصطلاحا - بأنه التصديق بالله، وإتباع السنة الإلهية التي سنّها الله لعباده، وأمرهم بالسير عليها، لتحقيق السعادة في الدنيا، والنجاة يوم القيامة.
وهكذا نلاحظ عدم وجود الفرق اللغوي في المعنى بين الدين والشريعة، ولكن - في المفهوم القرآني - يوجد بينهما فرق من حيث الخصوص والعموم، فالدين أعمّ، والشريعة أخصّ.
فدين الله الذي ارتضاه لعباده واحد هو الإسلام، وهو لكل الأمم، أما الشريعة فهي أخصّ من الدين، ولذلك نرى لكل أمة شريعتها الخاصة، التي لا تنسب إلا إليها، كوقلنا: شريعة اليهود، وشريعة النصارى، والشريعة الإسلامية.
وبعد أن نقل العلامة الطباطبائي تعريف الراغب للشرع، وأنه يعني «نهج الطريق الواضح...» تطرّق إلى بيان الفرق بين الدين والشريعة، فقال[7] : «معنى الشريعة - كما عرفت - هو الطريقة، والدين - وكذلك الملّة - طريقة متخذة، لكن الظاهر من القرآن أنه يستعمل الشريعة في معنى أخصّ من الدين، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[8] ، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[9] ، إذا انضما إلى قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[10] ، وقوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾[11] .
فكأن الشريعة هي الطريقة الممهدة لأمة من الأمم، أو لنبي من الأنبياء الذين بعثوا بها، كشريعة نوح، وشريعة إبراهيم، وشريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمد ﷺ.
والدين هو السنة والطريقة الإلهية العامة لجميع الأمم، فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع.
وهناك فرق آخر، وهو أن الدين ينسب إلى الواحد والجماعة كيفما كانا، ولكن الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلا إذا كان واضعها، أو القائم بأمرها، يقال: دين المسلمين، ودين اليهود وشريعتهم، ويقال: دين الله وشريعته[12] ، ودين محمد وشريعته[13] ، ويقال: دين زيد وعمرو، ولا يقال: شريعة زيد وعمرو[14] ، ولعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثي، وهو تمهيد الطريق ونصبه.
فمن الجائز أن يقال: الطريقة التي مهّدها الله، أو الطريقة التي مهّدت للنبي، أو للأمة الفلانية، دون أن يقال: الطريقة التي مهّدت لزيد، إذ لا اختصاص له بشيء.
وكيف كان فالمستفاد منها أن الشريعة أخصّ معنى من الدين...» [15] .
صحيح أن الشرائع الإلهية ينسخ بعضها بعضاً، ولكن ذلك ليس بالمعنى الذي قد يتبادر إلى أذهان البعض من أن كل شريعة لاحقه ترفع كل شريعة سابقة، وتنسخها نسخا كاملا.
فهذا مفهوم خاطئ جداً، والصحيح أن الشرائع الإلهية يكمل بعضها بعضاً، فكل شريعة لاحقه هي مكملة للشريعة السابقة، والشريعة الإسلامية الغراء هي آخر الشرائع، وبها أكمل الله الدين، وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[16] .
ولمزيد من الشرح والبيان أقول: هناك أمران يجب أن نلتفت إليهما، ونفرق بينهما:
الأول: الدين.
الثاني: الشريعة.
وكما أوضحنا قبل قليل: فإن دين الله الذي ارتضاه لعباده، وأمرهم بالدخول فيه، مؤكدا لهم أنه سبحانه وتعالى لن يقبل منهم غيره، هو واحد لم يتغير، ولن يتغير، ذلك هو «الإسلام» كما يقول عز وجل: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[17] ، فالإسلام هو الدين الإلهي الوحيد الذي ما أرسل الله الرسل وما أنزل الكتب إلا من أجل تبليغه إلى الناس، ودعوتهم إليه.
أما الشريعة فهي المتغيّرة، ولكن ليس بمعنى أن كل شريعة تنسخ ما قبلها تماماً، وترفعها رفعا كاملا، وإنما هي متممّة لها لا أكثر، وبمجموع هذه الشرائع المكمّلة لبعضها اكتمل دين الله، وهو الإسلام.
فلقد كان الرسل والأنبياء يتدرجون في إبلاغ الدين إلى الناس حسب مستوياتهم العقلية والفكرية، ووفق قدراتهم ومؤهلاتهم الذاتية، فكلما ازداد الناس فكرا ووعيا وإدراكا وفهما ومعرفة وتقدماً ورقيّاً... بعث الله إليهم رسولاً بشريعة تناسب ما وصلوا إليه من الوعي والفهم والإدراك، وهكذا استمر التدرج في تبليغ الدين إلى الناس عن طريق هذه الشرائع، منذ زمن نبي الله نوح إلى خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ﷺ.
وأصحاب الشرائع الإلهية خمسة من الرسل، هم - بالترتيب والتسلسل الزمني -: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبي الأعظم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»
فأول أصحاب الشرائع الإلهية هو نبي الله نوح، وكل الذين جاؤوا من بعده كانوا على شريعته، إلى زمن نبي الله إبراهيم الذي جاء بشريعة متممّة لشريعة نوح، وكل الذي جاؤوا من بعد إبراهيم كانوا على شريعته، إلى عهد نبي الله موسى الذي جاء بشريعة متممّة لشريعة نبي الله إبراهيم... وهكذا الحال إلى أن وصل الأمر إلى الرسول الأعظم محمد ﷺ، الذي هيمنت شريعته على كل الشرائع، وبها أكمل الله الدين، وأتمّ النعمة، ورضي الإسلام لنا دينا.
في القرآن الكريم مجموعة من الآيات الشريفة الدالة على هذا المعنى الذي شرحناه، منها قوله جل وعلا: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾[18] .
فهذه الآية الشريفة واضحة المعنى والدلالة، فهي تقول لرسول الله ﷺ: إن الله شرع لك ولأمتك ما أوحاه عز وجل إليك مما تختص به شريعتك، إضافة إلى ما وصّى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى.
وبهذا تكون الشريعة الإسلامية جامعة لكل الشرائع الإلهية السابقة، ومهيمنة عليها.
وللسيد محمد حسين الطباطبائي كلام طويل وجميل حول تفسير هذه الآية، نأخذ منه فقط محل الحاجة.
فقد قال في تفسير قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا﴾: «أي بيّن وأوضح لكم من الدين - وهو سنّة الحياة - ما قدم وعهد إلى نوح مهتما به.
واللائح من السياق أن الخطاب للنبي وأمته، وأن المراد بما وصّى به نوحا شريعة نوح»
وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾: «ظاهر المقابلة بينه وبين نوح، أن المراد «بما أوحي إليه» ما اختصت به شريعته من المعارف والأحكام...»
وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ﴾ «المراد ما شرّع لكل واحد منهم»
وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ «إقامة الدين حفظه بالإتباع والعمل، واللام في «الدين» للعهد، أي أقيموا هذا الدين المشروع لكم، وعدم التفرقة في حفظه ووحدته، بالاتفاق عليه، وعدم الاختلاف فيه»
ثم قال: «لما كان شرع الدين لهم في معنى أمرهم جميعا بإتباعه، والعمل به من غير اختلاف، فسّره بالأمر بإقامة الدين، وعدم التفرّق فيه، فكان محصله: أن عليهم جميعا إقامة الدين جميعا، وعدم التفرّق والتشتت فيه بإقامة بعض وترك بعض.
وإقامته: الإيمان بجميع ما أنزل الله، والعمل بما يجب عليهم العمل به.
فجميع الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه دين واحد، يجب إقامته، وعدم التفرق فيه...» إلى آخر كلامه رفع الله مقامه[19] .
والنتيجة التي نصل إليها على ضوء هذا العرض:
1 - الدين الإلهي واحد لا أكثر، وهو الإسلام.
2 - الشرائع الإلهية متعددة، وهي خمس شرائع مكملة لبعضها البعض.
3 - الدين يتكون من مجموع هذه الشرائع، التي باكتمالها اكتمل الدين.
4 - كان الرسل والأنبياء يتدرجون في تبليغ هذا الدين حسب مؤهلات الناس العقلية والفكرية والعلمية، فكلما تقدم الإنسان في عقله ووعيه أرسل الله إليه رسولا بشريعة موافقة لذلك الرقي والتقدم.
5 - أصحاب الشرائع الإلهية خمسة، هم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبي الأكرم محمد سلام الله عليهم أجمعين.
6 - الأنبياء الذين من بعد نوح كانوا يدعون الناس إلى الله وفق شريعة نوح إلى زمن إبراهيم، والذين من بعد إبراهيم كانوا على شريعته إلى عهد موسى... وهكذا إلى النبي الأعظم محمد ﷺ.
7 - بما أن الله عز وجل جعل لنا دينا، وحثّنا على إقامته، وعدم التفرّق فيه، مبيّنا أن ذلك إنما يتمّ من خلال الالتزام بشريعته سبحانه وتعالى، فيكون واجبنا - كمؤمنين به، مصدقين لكلامه، معتقدين بأنبيائه، وبما حملوه إلينا من عنده - أن نلتزم بشريعته، ونعمل بها، ولا نبتغي بها بدلا، ولا عنها حولا.
هذا ملخص ما يتعلق بالشق الأول من السؤال عن نسخ الشرائع لبعضها البعض، وكذا عن تعددها ووحدة الدين الإلهي.
وأعتقد أنه كان من المهم جدا أن نقوم بهذا العرض، ونوضح هذه المسألة، لأنه متى فهمنا أن دين الله عز وجل واحد، وأن جميع الرسل والأنبياء كانوا يدعون إليه عن طريق تلك الشرائع المتعددة المتكاملة، ساعدنا ذلك على فهم أن يكون رسولنا الأعظم ﷺ على دين إبراهيم، كما سنبين ذلك تفصيلا في إجابة الشق الثاني من السؤال.
أما سؤالك: لماذا آباء النبي على شريعة نبي الله إبراهيم وليس على شرائع الذين من بعده من الأنبياء؟! فسأحاول إجابتك عليه على ضوء دراستي لآيات القرآن الكريم، وما استخلصته من تلك الدراسة، آملا أن أوفق إلى إجابة تحوي ولو شيئا قليلا من الجديد المفيد.
فواقعا ليس فقط آباء النبي وأجداده كانوا على شريعة نبي الله إبراهيم، بل كل الذين كانوا من بعد إبراهيم من أهل التوحيد الصحيح هم على شريعته ، بما في ذلك الرسل والأنبياء بمن فيهم أنبياء الله العظام: موسى وعيسى والنبي الأعظم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهذا واضح جدا من خلال ما قدمناه من حديث عن «وحده الدين وتعدد الشرائع» وسنزيده إيضاحا من خلال السطور التالية، وذلك من خلال عدة عناوين، هي كما يلي:
أشرنا إلى أن الدين الإلهي واحد بشرائع متعددة، وأن أول الشرائع الإلهية هي شريعة نبي الله نوح وأساسها التوحيد، كما أشرنا إلى أن الشرائع التي من بعده هي متممّة لشريعته، إلى أن وصل الأمر إلى الشريعة الإسلامية الغراء، التي جاء بها سيد الرسل وخاتم الأنبياء، وبها اكتمل الدين الإلهي الذي هو: الإسلام.
فنبي الله إبراهيم موافق في دينه ودعوته لنبي الله نوح، لذلك عدّه القرآن الكريم من شيعته، فقال: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾[20] .
والشيعة: الفرقة والجماعة، وتطلق على الأتباع والأنصار، يقال: هم شيعة فلان، وشيعة كذا من الآراء[21] ، فمثلا: نحن شيعة أهل البيت، أي أتباعهم والسائرون على نهجهم، وقد قال الإمام الحسين يوم كربلاء مخاطبا الجيوش الأموية التي تابعت بني أمية ونصرتهم إلى حد قتلهم سيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه: «ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون»
فالآية الكريمة: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ تقول: إن إبراهيم من شيعة نوح، أي من أتباعه وأنصاره، السائرين على نهجه، الداعين إلى دينه، التابعين لدعوته، وقد جاء بشريعة متممّة لشريعته.
وهذه الآية وردت في سورة الصافات، أثناء عرض قصة نبي الله إبراهيم الخليل، التي ذكرها الله عز وجل بعد قصة نبي الله نوح .
وقد علّق السيد الطباطبائي على ذلك بقوله: «قيل: من حسن الإرداف في نظم الآيات، تعقيب قصة نبي الله نوح - وهو آدم الثاني أبو البشر - بقصة إبراهيم - وهو أبو الأنبياء - إليه تنتهي أنساب جلّ الأنبياء من بعده، وعلى دينه تعتمد أديان التوحيد الحيّة اليوم، كدين موسى وعيسى ومحمد » [22] .
وتأملوا جيدا في قوله: «وعلى دينه تعتمد أديان التوحيد الحيّة اليوم، كدين موسى وعيسى ومحمد » فإنه يؤكد ما قلناه من وحدة الدين وتعدد الشرائع، وأن كل الذين كانوا من بعد إبراهيم هم على دينه صلوات الله وسلامه عليه.
وأيضا تأملوا جيدا قول الحق عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[23] .
والتقفية - كما يقول الطبرسي -: «جعل الشيء في أثر الشيء على الاستمرارية فيه، ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف، إذا كانت تتبع البيت على أثره، مستمرة في غيره على منهاجه» [24] .
والآية الشريفة تتحدث عن إرسال نوح وإبراهيم، ثم تؤكد على أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى من بعدهما، إنما هم «يقفون» أي يتبعون أثرهما، والسابقين من ذريتهما.
والمراد «بالأثر» هو «المنهج المتبع» فحين يقول عز وجل: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ فهو سبحانه يشير إلى أن المتأخرين من الرسل كانوا يقفون، أي يتبعون آثار ومنهج نوح وإبراهيم وذريتهما.
وهذا يعني أن كل الرسل والأنبياء كانوا على نهج إبراهيم الخليل في الدعوة والعقيدة، واتباع الشريعة، فالطريق واحد هو: «الإسلام» والكل كان يسير عليه، ويدعو إليه بدون استثناء، أما الشرائع فهي المتعددة ومتممّة لبعضها بعضا، والتي بمجموعها اكتمل الدين.
ومما تقدم نفهم أن ما جاء به نبي الله موسى في اليهودية، وما جاء به نبي الله عيسى في النصرانية، إنما هو دين إبراهيم نفسه الذي هو الإسلام، وشريعة موسى متممّة لشريعة إبراهيم، وشريعة عيسى متممّة لشريعة موسى سلام الله عليهم أجمعين.
فالشريعتان: «اليهودية والنصرانية غير المحرفتين» تمثلان الإسلام الحق الأصيل، الذي كان يدعو إليه نبي الله إبراهيم الخليل، مما يعني أن موسى وعيسى من أتباع إبراهيم، وإلى دينه يدعوان، كما أن الشريعة الإسلامية التي جاء بها رسول الله ﷺ هي أيضا على المنهج نفسه.
وما تقدم يؤكد لنا وحدة الدين وتعدد الشرائع، كما أنه يبيّن لنا وجوب الحكم بالشرائع الإلهية، ويزداد الأمر لنا وضوحا حين نتدبر ونتأمل جيدا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[25] .
وهنا يجب أن تدققوا جيدا، وتتأملوا كثيرا، ماذا تلاحظون؟!
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ «فالتوراة» كتاب نبي الله موسى بن عمران، وهو «كتاب هدى ونور» يحكم به لليهود ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ والأمر أو الإشارة إلى الحكم بالتوراة يعني اشتمال التوراة على قوانين ودساتير وأحاكم تشريعية، ووصف الأنبياء الذين يحكمون بها - وهم موسى ومن بعده، إلى عهد عيسى ابن مريم - «بالذين أسلموا» كناية عن تسليمهم المطلق لله، الذي هو الدين الذي يدعو إليه إبراهيم، مما يعني أن موسى ومن بعده من الأنبياء كانوا على دين إبراهيم الخليل ، والأحكام التشريعية التي في التوراة متممّة لشريعته .
وكذلك يحكم بالتوراة: ﴿الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾
والربانيون هم العلماء، المنقطعون إلى الله في عملهم وقولهم.
والأحبار هم الخبراء من علمائهم.
والربانيون والأحبار يحكمون بما أمرهم الله به، وأراده منهم، بما استحفظوا من كتاب الله، الذي هو «التوراة» مما يدل على أن هؤلاء الربانيين والأحبار هم أيضا على الإسلام الذي عليه الأنبياء، وسائرون على منهاج الشريعة الإلهية التي أنزلها الله عز وجل.
ثم تؤكد الآية على أن الذين يخالفون تلك التشريعات المنزلة في التوراة، هم «كافرون وظالمون» مما يثبت وجود التشريع الإلهي، ووجوب الحكم به.
فتكون النتيجة: أن اليهودية ليست هي - في الحقيقة - إلا الإسلام الذي كان عليه إبراهيم الخليل، وأن ما شرّعه الله عز وجل من شرائع يجب تطبيقها والحكم بها، وأن من يخالف ذلك فهو - بحسب الوصف القرآني - كافر وظالم.
ثم تقول الآية الكريمة: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ لتثبت أن عيسى بن مريم مصدق لما بين يديه ولمن سبقه من الرسل والأنبياء، كما أن كتابه «الإنجيل» مصدق للكتب الإلهية السابقة عليه، والتي من بينها «توراة موسى بن عمران» مما يؤكد لنا أن جميع الرسل والأنبياء كانوا على دين واحد، يمهّد السابق منهم للاحق، ويُصدّق اللاحق منهم السابق، وكذلك الحال في كتبهم التي يُصدّق بعضها بعضا، وشرائعهم التي يُكمّل بعضها بعضا.
وأما قوله تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فهو يؤكد وجود الشريعة المنزلة على نبي الله عيسى ، ووجوب الحكم بها، وإلا أدى عدم ذلك إلى الفسق، مما يؤكد ويثبت انحصار حق التشريع في الله، وأنه ليس لمن يؤمن به سبحانه وتعالى أن يخالف تشريعه.
ووجوب الأخذ بالشريعة الإلهية، والحكم بها، وعدم جواز مخالفتها، أو الحياد عنها بأي حال من الأحوال، هو ما نستفيده من هذه المقاطع الثلاث الواردة في هذه الآيات الكريمة: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[26] ، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[27] ، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[28] .
وقد علّق الشيخ جعفر السبحاني على هذه المقاطع الثلاثة من هذه الآيات الكريمة بقوله: «فهذه المقاطع الثلاثة - في الآيات الثلاث - تعرب عن انحصار حق التقنين بالله سبحانه، وذلك لأنه يصف كل من حكم بغير ما أنزل الله تارة بالكفر، وأخرى بالظلم، وثالثة بالفسق.
فهم كافرون، لأنهم يخالفون التشريع الإلهي بالرّد والإنكار والجحود.
وهم ظالمون، لأنهم يسلّمون حقّ التقنين - الذي هو مختصّ بالله سبحانه - إلى غيره.
وفاسقون، لأنهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة الله تعالى.
وباختصار: عدّ الحكم صنفين: حكم الله تبارك وتعالى، وحكم الجاهلية، ويقول: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[29] .
فالحكم حكمان: حكم الله، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ بحكم الله، حكم بحكم أهل الجاهلية» [30] .
بعد أن بيّنت الآية الكريمة ما بيّنت من إتباع الرسل والأنبياء لنوح وإبراهيم، وقفوهم لآثارهما، كما أثبتت وجود التشريع الإلهي، وأكدت على وجوب الحكم به، ووصفت من لم يحكم بما أنزل الله من أحاكم، وسنّ من تشريعات بالكفر والظلم والفسق، تم توجيه الخطاب الإلهي إلى رسول الله ﷺ، فقال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾
فالخطاب - هنا - موجّه إلى النبي، فهو ﷺ الذي أنزل الله عليه الكتاب، الذي هو «القرآن الكريم» والقرآن العزيز هو المصدّق لكل الكتب الإلهية التي سبقته، وهو المهيمن عليها أيضا.
وهذا يعني أن الدين الذي كان رسول الله عليه، ويدعو إليه، هو الدين نفسه الذي كان يدعو إليه كل الأنبياء الذين سبقوه ﷺ، وهو الإسلام، وأن شريعته الإسلامية الغراء قد هيمنت على جميع الشرائع الإلهية السابقة.
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...﴾: «وكلمة «مهيمن» تطلق - في الأصل - على كل شيء يحفظ ويراقب، أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه، ولما كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة، وصيانتها من التحريف إشرافا كاملا، ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ المهيمن.
فالقرآن - بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة - اشتمل أيضا على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظا وصائنا لها.
إن الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادئ والهدف الواحد، الذي تبنى تربية الإنسان، والسمو به إلى مراتب الكمال المعنوي والمادي، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب، والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإنسان، حيث أن كل شريعة جديدة ترتقي به إلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإنساني، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطورا.
والإتيان بعبارة: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ بعد عبارة: ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يدل على هذه الحقيقة، أي أن القرآن - في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة - يأتي - في نفس الوقت - ببرامج وخطط أكثر شمولية للحياة.
ثم تؤكد على النبي ﷺ - انطلاقا من الحقيقة المذكورة - ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾
وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية، فتدل على شمولية أحكام الإسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأخرى» [31] .
وهكذا نرى أن الآيات القرآنية تؤكد - بما لا مزيد عليه - على أن الشرائع الإلهية كلها متكاملة، ومؤسسة لدين واحد هو الإسلام، وأن جميع الرسل والأنبياء الذين جاؤوا من بعد إبراهيم بما فيهم موسى وعيسى - إنما كانوا على دينه .
كما تؤكد وتثبت هيمنة الشريعة الإسلامية على جميع الشرائع السابقة، وتأمر النبي أن يحكم بموجبها، وتنهاه ﷺ عن اتباع الأهواء عمّا جاءه من الحق، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ مما يدل على وجوب الحكم بالشريعة الإسلامية، وأن ذلك هو الحق، وأن أي تشريع مخالف لها فهو اتباع للهوى على حساب الحق المبين.
أظن أنه من خلال هذا العرض اتضح لنا أن نبي الله إبراهيم الخليل هو الأصل، وأن جميع الرسل والأنبياء الذين من بعده إنما كانوا يدعون إلى دينه، وعليه يدلون، وبه يعملون، وأما اليهودية والنصرانية المحرّفة فلا تمثل من الحق شيئا، وموسى وعيسى عليهما السلام بريئان مما طرأ على شريعتيهما من التحريف، وهما - كغيرهما من الأنبياء والمرسلين - على دين إبراهيم، لم يشذا عنه أبدا وعلى الإطلاق.
وإنما كان إبراهيم هو الأصل، لأن دينه هو الدين الحنيف الذي ارتضاه الله لعباده، وطلب سبحانه من الكل - بما في ذلك رسول الله - أن يكونوا على «ملة نبي الله إبراهيم» لأنها الحنفية السمحة التي لا اعوجاج فيها ولا التواء.
يقول عز وجل ممتنا على رسوله والمؤمنين: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾[32] .
فهو سبحانه وتعالى يمتنّ على رسوله والمؤمنين بهذا الدين الذي رفع به عنهم كل حرج، ويؤكد جل وعلا على أن هذا الدين الذي عليه النبي والمؤمنون هو ملة إبراهيم وشريعته السمحة القائمة على الوسطية فلا إفراط ولا تفريط.
يقول السيد الطباطبائي: «وإنما سمي إبراهيم أبا للمسلمين، لأنه أول من أسلم كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[33] .
وقال حاكيا عنه: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾[34] ، فنسب اتباعه إلى نفسه.
وقال أيضا: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾[35] ، ومراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعا»
وقال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾[36] .
وقوله: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا﴾ امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين يعد الامتنان بقوله: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ فالضمير له تعالى، وقوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل نزول القرآن، وقوله: ﴿وَفِي هَٰذَا﴾ أي وفي هذا الكتاب.
وفي امتنانه عليهم بذكر أنه سماهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم» [37] .
ولاحظوا كيف يتحدث القرآن الكريم عن الخليل إبراهيم ويؤكد أن دينه بمثل خط الهداية، وأنه هو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء، ثم يأمر النبي الأعظم بإتباع تلك الملة الإبراهيمية والسير عليها، فيقول تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[38] .
وما ذاك إلا لأن إتباع ملة إبراهيم يعني السير على المنهاج الواضح والطريق القويم، ولقد كانت اليهودية والنصرانية على هذا الخط قبل أن يطرأ عليهما التحريف والتبديل، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾[39] .
فإبراهيم الخليل متبوع من قبل اليهودية والنصرانية الحقة، وليس تابعا لهما لأنه متقدم عليهما.
وعليه نخلص إلى أن ملّة إبراهيم هي الدين الحق الذي كان عليه إبراهيم وأبناؤه إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن من يرغب عن هذه الملة وينحرف عنها يمينا أو شمالا فقد سفه نفسه وضل ضلالا مبينا: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[40] .
أما اليهودية والنصرانية فهي في الأصل تابعة لما كان عليه إبراهيم، ولكن طرأ عليها التحريف والتغيير من قبل اليهود والنصارى، الذين تعددت مشاربهم ومذاهبهم حتى أصبح اتباعهم خروج من الحق إلى الضلال.
ولهذا نجد القرآن الكريم ينهي عن اتباع اليهودية والنصرانية، ويؤكد على التزام ما كان عليه إبراهيم من الحق، فيقول سبحانه: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[41] .
يقول الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ جواب عن قولهم - أي قولهم كونوا هودا أو نصارى تهتدوا - أي قل: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم: إبراهيم فمن دونه، وما كان صاحب هذه الملة - وهو إبراهيم - من المشركين، ولو كان في ملته هذه الانشعابات وهذه الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون من الاختلافات، لكان مشركا بذلك، فإن ما ليس في دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره وهو الشرك.
فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله» [42] .
وإذا كان ما عليه إبراهيم هو دين التوحيد الخالص، عكس ما كانت عليه اليهودية والنصرانية بعدما دخل عليهما ما دخل من خرافات عقائدية وغير عقائدية، فمن الطبيعي جدا أن يكون آباء النبي وأجداده على دين إبراهيم الخليل، لاسيما وأنهم من ذريته التي سأل إبراهيم ربه أن يجنبها عبادة الأصنام، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[43] .
وكذلك قوله كما ينقل القرآن الكريم: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾[44] .
والنبي الأعظم وآباؤه وأجداده هم من ذرية إبراهيم الذين شملتهم دعوته في التطهير من الشرك والوثنية، والثبات على الإسلام ودين الحق الذي كان عليه إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام، ولهذا لم يكن آباء النبي وأجداده على اليهودية أو النصرانية، وإنما كانوا على دين إبراهيم الخليل.
وهنا نقطة مهمة لابد من التأكيد عليها، ولفت الانتباه إليها، وهي أنه رغم أن النبي على الدين الذي عليه إبراهيم، إلا إنه ﷺ ليس تابعا لإبراهيم، ولذا يجب أن نلاحظ الدقة في التعبير القرآني العظيم، فحينما أكد الله عز وجل أن جميع الذين من بعد إبراهيم هم أتباع له ، بقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ صان مقام رسول الله من الاتباع فقال: ﴿وَهَٰذَا النَّبِيُّ﴾
فالنبي - وإن كان على الدين الذي عليه إبراهيم ويدعو إلى ما كان يدعو إليه - إلا أنه أرفع مقاما من أن يكون تابعا له أو لغيره، بل هو ﷺ المتبوع من الجميع، فما دعوة إبراهيم ومن بعده إلاّ تأسيس لهذا الدين الذي أقامه وشيّد أركانه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فكونه ﷺ على ملّة أبيه إبراهيم لا يعني أنه عليه وآله السلام تابع له، بل إبراهيم وجميع الأنبياء والمرسلين هم أتباع له، ممهدون لرسالته، كما تثبت ذلك النصوص الإسلامية كتابا وسنة.
ومما ورد في القرآن الكريم بهذا الصدد قوله عز وجل: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[45] .
وهنا يجب أن نلاحظ عدة أمور:
أولا: هذه الآيات الكريمات تتحدث عن نبي الله إبراهيم الخليل، وتصفه بأنه كان حنيفا مسلما، ولم يكن من المشركين، وتؤكد أن دينه يمثل خط الهداية، وهو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء.
ثانيا: تأمر النبي الأعظم ﷺ باتباع تلك الملّة الإبراهيمية والسير عليها.
ثالثا: الآية الكريمة أمرت النبي باتباع ملّة إبراهيم وليس إبراهيم ذاته، فقالت: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ فهو ﷺ تابع لملّة إبراهيم وليس لإبراهيم.
رابعا: إنما أمر ﷺ باتباع ملّة إبراهيم لأنها هي الحق الذي يجب على الجميع بمن فيهم هو ﷺ أن يدينوا بها ويكونوا عليها.
خامسا: بما أن اتباع ملّة إبراهيم الخليل غير اتباع إبراهيم ذاته، فهذا يعني أن النبي عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام ليس تابعا لأحد، لا إبراهيم ولا غيره من الأنبياء، بل هم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تابعون له ﷺ، باعتباره صاحب الدين والرسالة، وكل الأنبياء السابقين كانوا يدعون إلى دينه، ويمهدون لرسالته.
ومن أوضح الآيات في الدلالة على أن النبي المصطفى ﷺ هو صاحب الدين والرسالة، وأن جميع الرسل والأنبياء إنما كانوا يمهدون لدينه ورسالته، ولو أنهم كانوا في عهده لوجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، آية أخذ الميثاق من الأنبياء، وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ، فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[46] .
ودعونا نتابع مفردات الآيات الكريمات لنرى النتيجة التي توصلنا إليها:
1 - ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ أي إن الله عز وجل لما آتى النبيين الكتاب والحكمة والنبوة، أخذ منهم الميثاق، أي العهد المؤكد على إن جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به ولينصرنه.
2 - هذا الميثاق مأخوذ من الله على الأنبياء، ومن الأنبياء على أممهم، لتكون النتيجة أخذ الميثاق الإلهي من الله على الأنبياء وأمم الأنبياء معا بأن يؤمنوا بهذا الرسول وينصروه.
3 - أما هذا الرسول الذي أخذ الله ميثاق الأنبياء وأممهم على الإيمان به ونصرته، فهو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ﷺ، كما أكد ذلك المفسرون من السنة والشيعة، وبه جاءت الروايات من طريق الفريقين.
4 - ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي﴾ الاستفهام هنا للتقرير، أي: إن الله عز وجل أخذ منهم الإقرار بهذا العهد، والمعنى أأقررتم أنتم بميثاقي، وأخذتم العهد من أممكم به.
5 - ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾ وهذا إقرار منهم بهذا الميثاق على أنفسهم وعلى أخذه من أممهم.
6 - ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي قال الله تعالى: كونوا أنتم شهودا على أنفسكم وأممكم، وأنا شهيد عليكم جميعكم.
7 - ﴿فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي فمن تولى عن هذا الرسول ولم يؤمن به ولم ينصره فهو الفاسق عن الدين، أي المارق عن الدين الخارج عنه.
8 - ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ أي هؤلاء الذين يتولّون عن رسول الله، ويكفرون به وبرسالته، ولا يقبلون دينه، هل يبتغون دينا غير الإسلام الذي هو دين الله جاء به إليهم هذا الرسول العظيم ﷺ: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[47] .
وما استفدناه من الآيات القرآنية في كون النبي الأعظم متبوعا من الجميع، غير تابع لأحد حتى لمن سبقه من الأنبياء والمرسلين، هو ما تؤكده مجموعة من الأحاديث الواردة من طريق الفريقين، نكتفي بذكر البعض منها:
عن علي أمير المؤمنين أنه قال: «لم يبعث الله نبيا: آدم ومن بعده، إلا أخذ عليه العهد لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه» [48] .
قال الإمام علي : «ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد ﷺ، وأمره أن يأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به ويناصروه إذا أدركوا زمانه» [49] .
أخرج عبد بن حميد وأبي جرير عن قتادة في الآية قال: «هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يُصدّق بعضهم بعضا، وأن يُبلّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلّغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما بلّغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويصدقوه وينصروه» [50] .
عن الإمام علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنه: «ما يبعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا ﷺ وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه» [51] .
عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكفروا بحق، وأنه - والله - لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني» [52] .
عن رسول الله ﷺ: «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي» [53] ، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المعنى.
إن النبي الأكرم ﷺ هو صاحب الدين والرسالة، وجميع الرسل والأنبياء الذين سبقوه زمانا إنما كانوا يؤسسون لدينه ويبشرون برسالته، فهم أتباعه، وهو ﷺ متأخر عنهم زمانا متقدم عليهم مرتبة ومقاما.
هذا ما أوقفني عليه التدبر في الآيات القرآنية، وآمل أن أكون قد وفقت في الإجابة بما يوافق الحق والصواب، كما آمل فعلا أن يكون لي في إجابتي هذه قصب السبق، إذ أني لم أجد من تناول هذا الموضوع على هدي الآيات القرآنية الشريفة وقام بشرحه وتفصيله كما فعلت في هذا العرض.
شكري الجزيل للأخت الفاضلة «عشق الحنين» إذ ببركتها وبركة سؤالها وُلد هذا الموضوع المتكامل، الذي آمل أن يكون جديدا في طريقة تناول هذه القضية وعلاجها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.