آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 9:31 م

الإمام الحسن: المثال الأنموذجي للتواضع

الشيخ عبد الله اليوسف *

التواضع صفة أخلاقية حميدة، وخصلة إنسانية جميلة، لأنه يعبر عن سمو النفس ورفعتها، فالتواضع - كما عرفه علماء الأخلاق - هو اللين مع الخلق، والخضوع للحق، وخفض الجناح.

وبهذا المعنى فإن التواضع يرمز إلى خفض الجناح ولين الجانب وسهولة التعامل مع الآخرين وسرعة التكيف معهم، أما التكبر والغرور والعجب بالنفس فيرمز إلى الصعوبة في التعامل، والحدية في القول والفعل، وعدم الخضوع للحق.

ولا شيء يفسد الأخلاق كالتكبر والغرور والعجب بالنفس، ولا شيء ينمي الأخلاق الحسنة كالقلب الطيب والتواضع والنفس الترابية والعقل الرشيد!

والإنسان المغرور كالطائر المرتفع كلما حلق في السماء عالياً كلما صغر في أعين الناس والإنسان المتواضع كالطائر النازل كلما كان أقرب إلى الأرض رآه الناس كبيراً، فيحظى بمحبة الناس وتقديرهم.

وقد حَثَّ القرآن الكريم المؤمنين على التواضع، فقد جاء في غير سورة ما يدل عليه، ويشير إليه كقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ[1]  وقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا[2]  وقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[3] ، إلى غيرها من الآيات الشريفة التي فيها معنى التواضع ومفرداته.

أما في السنّة المطهّرة فقد رُوِي الكثير من الروايات التي تحثّ على التحلي بصفة التواضع، والتي توضح أيضاً فضيلته وفضله، منها قول رسول الله: «لا حَسَبَ إلّا بِتَواضُعٍ» [4] ، وقوله: «ما تَواضَعَ أحَدٌ للَّهِ إلّارَفَعَهُ اللَّهُ» [5] ، وقوله: «مَن تَواضَعَ للَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ» [6] ، وقوله: «إنّ التَّواضُعَ يَزيدُ صاحِبَهُ‏ رِفعَةً، فتَواضَعُوا يَرفَعْكُمُ اللَّهُ» [7] .

وروي عن أمير المؤمنين أنه قال: «علَيكَ بِالتَّواضُعِ؛ فإنّهُ مِن أعظَمِ العِبادَةِ» [8]  وورد عن أبي عبدالله قوله: «فِيمَا أَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى دَاوُدَ يَا دَاوُدُ كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللَّه الْمُتَوَاضِعُونَ، كَذَلِكَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللَّه الْمُتَكَبِّرُونَ» [9] ، وعن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: «إنّ في السَّماءِ ملَكَينِ مُوَكَّلَينِ بِالعِبادِ، فمَن تَواضَعَ للَّهِ رَفَعاهُ، ومَن تَكَبَّرَ وَضعاهُ» [10] ، وقال الإمامُ الكاظمُ: «إنّ اللَّهَ لَم يَرفَعِ المُتَواضِعينَ بقَدرِ تَواضُعِهِم، ولكنْ رَفَعَهُم‏ بِقَدرِ عَظَمَتِهِ ومَجدِهِ» [11] ... إلى غيرها من الروايات المستفيضة التي تبين أهمية التواضع وفضيلته، فحريّ بكل مسلم أن يتصف بهذه الصفة الأخلاقية الرفيعة، والتي توصله للفلاح والسعادة في آخرته ودنياه.

قصص من تواضع الإمام الحسن

التواضع سمة بارزة من سمات الأنبياء والأئمة والأولياء، وأعاظم العلماء وأكابر الحكماء، وقد سجلت لنا كتب التاريخ والسيرة الكثير من القصص والشواهد والأمثلة على ذلك.

ومن هؤلاء العظماء الكبار: الإمام الحسن بن علي الذي كان مثالاً بارزاً للتواضع ولين الجانب وخفض الجناح للمؤمنين، وقد نقلت لنا كتب السيرة والحديث والتاريخ صوراً مشرقة من تواضعه، نشير إلى بعضها، ومنها:

1 - يأكل مع الفقراء على الأرض:

روى ابن شهر آشوب: إنَّهُ مَرَّ الحسنُ‏ بنُ‏ عَليٍ‏ عَلى فُقَراءٍ وَقَد وَضَعوا كَسيراتٍ عَلَى الأرضِ وَهُم قُعودٌ يَلتَقِطونَها وَيَأكُلونَها فَقالوا لَهُ: هَلُمَّ يابنَ بِنتِ رَسولِ‏اللَّهِ إلى الغَداءِ، قالَ: فَنَزَلَ وَقالَ: إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُ‏ المُستَكبِرينَ، وَجَعَلَ يَأكُلُ مَعَهُم حَتّى اكتَفوا وَالزادُ على حالِهِ بِبَرَكَتِهِ، ثُمَّ دَعاهُم إلى ضِيافَتِهِ وَأطعَمَهُم وَكَساهُم[12] .

2 - ذاك الطعام أشهى من هذا:

روى الخوارزمي بسنده عن مدرك بن راشد، قال: كنّا في حيطان لابن عبّاس فجاء الحسن والحسين فطافا بالبستان فقال الحسن: أعندك غداء يا مدرك؟

فقلت له: طعام الغلمان، فجئته بخبز وملح جريش وطاقات بقل فأكل، ثمّ جيء بطعامه وكان كثير الطّعام طيّبة، فقال:

يا مدرك اجمع غلمان البستان فجمعتهم، فأكلوا ولم يأكل، فقلت له في ذلك، فقال: «ذاك كان عندي أشهى من هذا» [13] .

3 - يأكل مع الصبيان:

كان من شدة تواضعه: ما ذكره جماعة من العلماء في تصانيفهم أنه مرَّ بصبيان معهم كسر خبز فاستضافوه، فنزل من فرسه فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله وأطعمهم وكساهم، وقال: «اليد لهم، لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني، وأنا نجد أكثر منه» [14] .

4 - يجالس المساكين:

ذكر الثعلبي في تفسير قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ[15] .

قال الثعلبي: «ويروى أن الحسن بن علي كان يجالس المساكين، ثم يقول: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ[16] » [17] .

5 - أفتأذن لي بالانصراف؟:

كان الإمام الحسن يهم بالقيام من مكان جلوسه، إذ دخل عليه رجل فقير، فحياه الإمام وباسطه في الكلام، ثم قال له: «جلست إلينا على حين قيام منا، أفتأذن؟» يعني أفتأذن لي بالانصراف؟!

فأجاب الرجل: «نعم، يا بن رسول الله» [18] .

6 - إنما وضع الطعام ليؤكل:

من تواضع الإمام الحسن وحسن معاشرته للناس ترحيبه بكل قادم إليه، ودعوته للطعام، فقد روي أنه دخل عليه جماعة، وهو يأكل فسلموا وقعدوا فقال: «هلموا، فإنما وضع الطعام ليؤكل» [19] .

وتدل هذه القصص والشواهد وغيرها على شدة تواضع الإمام الحسن، وحسن تعامله مع الفقراء والمساكين، ولين معاشرته معهم، وخفض الجناح لهم، فرغم مكانته الرفيعة، وشخصيته العظيمة، وموقعيته في تاريخ الإسلام إلا أنه كان شديد التواضع، واسع الحلم، ينبوع الكرم والجود.

وعلينا الاقتداء بهذا الإمام العظيم الحسن بن علي في حسن أخلاقه، وجميل أفعاله، وشدة تواضعه، فالتواضع سمة من سمات الأنبياء والأئمة، فلنتخلق بأخلاقهم، ونتواضع لله تعالى من دون تكلف أو تصنع، فلا شيء كالتواضع يجعل الإنسان محبوباً عند الله وعند الناس، ولا شيء كالتكبر يجعل الإنسان مبغوضاً عند الله وعند الناس.

[1] سورة الحجر، الآية: 88.

[2] سورة الفرقان، الآية: 63.

[3] سورة الشعراء، الآية: 215.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 74، ص 168، ح 6.

[5] صحيح مسلم، ج3، ص432.

[6] كنز العمّال: ج 3، ص 112، ح 5730. مستدرك الوسائل: ج 11، ص 298، ح 13084. بحار الأنوار: ج 72، ص 120، ح 8.

[7] أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 130، ح 1.

[8] بحار الأنوار: ج 72، ص 119، ح 5.

[9] أصول الكافي، ج 2، ص 132، ح 11.

[10] أصول الكافي، ج2، ص 135، ح 2.

[11] تحف العقول: ابن شعبة الحراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية 1404هـ، ص 399.

[12] المناقب لابن شهرآشوب: ج 4، ص 23.
.
[13] موسوعة كلمات الإمام الحسن : ص 269.

[14] مرآة الجنان وعبرة اليقظان: عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني المكي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م، ج 1، ص 100. شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي، ج 11، ص 114.

[15] سورة النحل: الآية 22.

[16] سورة النحل: الآية 23.

[17] عمدة عيون صحاح الاخبار في مناقب إمام الأبرار، ابن البطريق، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، طبع عام 1407هـ، ص 400، رقم 812.

[18] المصنف: ابن أبي شيبة الكوفي، ج 6، ص 131. تاريخ الخلفاء: السيوطي، ص 208.

[19] المناقب لابن شهرآشوب: ج 4، ص 21.