مُلحدون مُتشددون!
لا وجود للثوابت الفكرية على هذه الأرض، كل المُعتقدات حين يتم نبش ماضيها والتعمق في البحث عن جذورها قد تقود إلى شكوك، وهذه الشكوك قد تكون طريقُا نحو يقينٍ راسخ، أو تكون بوابة اكتشاف مُعتقداتٍ جديدة واختيار استبدال المُعتقدات السابقة بها، ويبدو أن الإنسان خُلق لأجل التنقل من معرفة إلى أخرى في طريق محفوف بشكوك لا تنتهي، ومحطات يقين قصيرة الأمد، وصارت احتمالات هذا التنقل بين الاكتشافات المُختلفة في عالمنا الحديث الذي تضاءلت فيه السيطرة على مصادر المعلومات، إذ لم تعد الأسرة هي المُتحكمة الأولى بغرس الأفكار والمُعتقدات عن طريق توريثها من جيلٍ إلى جيل، ولم تعُد الدولة قادرة على التحكم بالبرمجة العقلية لأفراد المُجتمع عن طريق الإعلام المحلي كما في السابق، فيسهل جمع الناس على دين واحد أو طائفة واحدة من الولادة حتى الموت.
ثورة الاتصالات سمحت لأفكار متنوعة من عوالم أخرى بالإطلال على العالم العربي من نافذة الإنترنت، وموجات الهجرة واللجوء بسبب أحداث عام 2011م في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والصدمات النفسية المُركبة التي رافقتها بسبب ما واجهه الإنسان من آلام داخل بلده وآلام جديدة في البلدان المُستضيفة ساهمت في زعزعة شعور الناس بالأمان والإيمان، وكانت النتيجة لجوء البعض لدين آخر قد يبدو أكثر مصداقية من وجهة نظرهم في تلك اللحظة، أو الانسلاخ عن أي دين مُحدد مع الإيمان بوجود إله، أو التخلي عن تصديق فكرة وجود إله بصورة مُطلقة، وهو ما يُعرف ب ”الإلحاد“.
سواءً في العالم العربي أو العالم الغربي؛ هناك مُلحدون فرّوا من الدين بسبب حالة التقييد والتضييق والتشدد المُبالغ في أحكامه وطقوسه، خصوصًا تلك التي لا يمكن أن تتوافق مع مُعطيات العصر الحديث، والطريف في الأمر أن بعض أولئك الفارين من الدين بسبب تشدده تحولوا إلى ”مُلحدين مُتشددين“ إلى درجة جرَّدت الإلحاد من مفهومه الحُر، المُتحرر من كافة الالتزامات غير المفروضة أو الممنوعة بقوانين الدولة، إلى مُعتقد يفرض إجراءات صارمة على الأفراد، ويُطالبون الآخرين جميعًا بأن يعتنقوا أفكارهم، ويسلكون سلوكياتهم، ولا يحق لهم أن يخطوا خطوة خارج الحدود التي يرسمونها لهم ويفرضونها عليهم!
يُفترض أن يكون الدين أو عدمه ”خيار شخصي“ بعيد عن الإجبار، وكما أن ”الإكراه في الدين“ أمر غير مقبول؛ فإن ”الإكراه على الإلحاد“ أمرًا في غاية الازدواجية وانعدام المنطقية، لأن من جرَّب آلام الإكراه على مُعتقد من أي نوع لا يمكن أن يُجبر الآخرين على آخر إلا إذا كان ممن يستهويهم تعذيب الآخرين!
العالم الذي نعيش فيه أكثر اتساعًا من أن نكره غيرنا لأنه اختار أن يُصدق أفكارًا غير التي صدقناها، ويُمكننا أن نعيش معًا بسلام مع كل هذا التنوع الفكري والعقائدي دون حاجة لإلغاء الآخرين ونبذهم، بل يُمكننا أن نستفيد ونستمتع بهذا التنوع الذي وحبتنا إياه الحياة كي لا تكون ضيقة ومُملة.