«كورونا» وعولمة الفقر
أزمة الفقر والجوع، ليست حكراً على منطقة بذاتها، وهي تعكس الفجوة الصارخة بين الغنى والفقر.
لم يعد من سبيل لنكران الآثار السلبية لاستفحال وباء كورونا على حياة البشر. فقد أدى انتشار الوباء، وبمستوى أفقي على مستوى العالم، لكساد اقتصادي كبير، نتج عنه تعطل مصالح الناس، لفترة اقتربت حتى هذه اللحظة من تسعة أشهر. ويضاعف من حدة الأزمة أن بلداناً كثيرة، وبشكل خاص في آسيا وإفريقيا، كانت تعاني استفحال ظاهرة الفقر والجوع، وانتشار البطالة، وغياب الإصلاحات الاقتصادية، القادرة على إيجاد حلول عملية لمعالجة هذه الأزمة.
عنوان حديثنا هذا، مستوحى من كتاب «عولمة الفقر»، للاقتصادي الكندي، وأستاذ الاقتصاد بجامعة أوتاوا، ميشيل تشوسودوفيسكي. وقد ترجم الكتاب للعربية محمد مستجير مصطفى، وصدر عام 2000. ورغم أن الكتاب صدر منذ عقدين، وقبل أزمة الرهن العقاري وانتشار وباء كورونا، لكن التحليلات والنتائج التي توصل لها، تبقى جديرة وصالحة حتى يومنا هذا.
فأزمة الفقر والجوع، ليست حكراً على منطقة بذاتها، وهي تعكس الفجوة الصارخة بين الغنى والفقر، والحاجة الملحة للبشرية جمعاء، لقيام نظام عالمي جديد، تضيق فيه الفروق الطبقية، وتتعزز فيه الكرامة الإنسانية.
إن مطلب قيام نظام عالمي جديد، قائم على العدل، بين المجتمعات الإنسانية، يستند إلى يقين راسخ، بأن العالم، بات يعيش مرحلة اندماج اقتصادي، وأن القوانين الاقتصادية الحالية، ليست معزولة عن بعض. يكفي أن نشير إلى أن أي أزمة اقتصادية كبيرة في دول المركز، ستلقي بظلال ثقيلة، على بقية شعوب المعمورة. وقد عانى العالم بأسره، من تبعات أزمة 1928 العالمية، التي كان مركزها القارة الأوروبية. كما عانت البشرية جمعاء حديثاً، من أزمة الرهن العقاري عام 2007 التي كان مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أدت تلك الأزمة إلى إفلاس مصارف وشركات كبرى، ليس في بلد المصدر وحده، بل على مستوى جميع القارات.
وبديهي القول، أن نتائج تداخل الاقتصادات القومية، واحتكار ملكية المشروعات التجارية الكبرى، وارتباط العالم، بحلقات وصل فورية من الحواسب الآلية، بحيث بات التأثر والتأثير كبيرين جداً بين دول المركز، والدول النامية، التي يطلق عليها مجازاً العالم الثالث.
في منطقتنا العربية، يشكل صعود أسواق البورصة وهبوطها في البلدان الصناعية المتقدمة، بوصلة لصعود وهبوط مؤشرات الأسهم في أسواقنا المحلية. وكثير من ملاك الأسهم، هم من عموم الناس، وذوي الدخل المحدود، والباحثين عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية. لقد أدت انهيارات الأسهم، عام 2006 إلى انتقال آلاف البشر، من خانة ذوي الدخل المحدود، إلى خانة المعدمين. وللأسف فإن قوانين السوق السائدة، حتى يومنا هذا، لا توفر ضماناً لهذه الشريحة، والتي تشكل غالبية المساهمين من الأفراد، تسعفهم أثناء هذه الأزمات الحادة، وتنقذهم من الفقر.
وبالمثل، لا توجد أنظمة اقتصادية، تسهم في تخفيف حدة معضلات العاطلين عن العمل. صحيح أن بعض البلدان العربية، المنتجة للنفط، تعمل أثناء الأزمات على تخفيف وطأة حدتها. لكن البلدان الأخرى، تظل عاجزة، عن تقديم الدعم للفقراء والعاطلين، وذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب ضعف مواردها الاقتصادية، وغياب التخطيط، واتساع دائرة الفروقات بين الغنى والفقر.
العقائد السياسية، للدول المتقدمة، تنطلق من مبدأ آدم سميث في الاقتصاد الحر. والتوجه الذي ساد المجتمعات الرأسمالية، في تبني النظرية الكنزية، وما عرف بدولة الرفاه، بدأ التراجع عنه، رويداً رويداً، في السنوات الأخيرة. وربما يستسثنى من ذلك الدول الاسكندنافية، وكندا والقليل من الدول التي لا تنص دساتيرها، على الربط بين الحرية والعدل الاجتماعي.
الوضع الراهن، في البلدان النامية، كارثي بمعنى الكلمة، خاصة بعد استفحال وباء كورونا، وبروز موجات جديدة لهذا الوباء. لقد انضم ملايين من البشر، إلى قائمة الفقر، بعد أن تعطلت المصالح الاقتصادية، وباتت دول عربية تعرضت للحروب مثل لبنان وسوريا واليمن وليبيا والسودان عاجزة عن مقابلة الاستحقاقات الأساسية لمواطنيها. أما في بقية البلدان التي أشرنا لها فإن أمورها أسوأ بكثير.
في لبنان على سبيل المثال، تراجع سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار، قرابة ستة أضعاف. وشعب السودان ينوء بمشاكل الفيضان، التي شردت عشرات الألوف من البشر عن مساكنهم، وباتوا في العراء مهددين بالجوع، والأمراض والأوبئة المستفحلة.
بات من المتفق عليه، من قبل عدد كبير من المحللين الاقتصاديين، أن ما بعد كورونا ليس كما قبله. وأزمة الفقر الحالية، هي أزمة إنسانية، مشروع الانقاذ فيها، ينبغي ألا يقتصر على مد العون، بل وهذا هو الأهم، يجب أن يستند إلى تشكيل عالم أكثر رحابة وعدلاً.