رسالة الحقوق.. والنصيحة «1»
الإنسان ليس له غنى عن المجتمع ولا يستطيع أن يعيش مستقلا بحاله بدون الحاجة للآخرين. ورد أن رجلا قال بحضرة الإمام زين العابدين : اللهم أغنني عن خلقك فقال له الإمام: ليس هكذا إنما الناس بالناس، ولكن قل: اللهم أغنني عن شرار خلقك“. [1] ومن حاجات الإنسان لإخوانه أنه يقصدهم أحيانا لطلب الاستشارة والنصيحة للاستفادة من تجاربهم وخبراتهم في الحياة وقد اهتم بهذا الجانب الإمام السجاد وتطرق لحقوق المستشير والمشير والمستنصح والناصح في رسالة الحقوق التي أصدرها قبل أكثر من 1300 عام والتي شملت خمسون مادة أو حقا في علاقة الإنسان مع ربه ومع نفسه والمجتمع. إنها رسالة عظيمة تستحق القراءة والتأمل في كلماتها وهي مختصرة في كلماتها قيمة بما ورد فيها من حقوق ولن تستغرق الوقت الكثير لقراءتها، وسنتناول في هذه الأسطر الحقوق المتعلقة بالنصيحة، فقد ورد فيها حق المستنصح وحق الناصح. [2]
حق المستنصح
وأَمّا حَقّ الْمُسْتَنْصِحِ فَإِنّ حَقّهُ أَنْ تُؤَدّيَ إِلَيْهِ النّصِيحَةَ عَلَى الْحَقّ الّذِي تَرَى لَهُ أَنّهُ يَحْمِلُ وَ تَخْرُجَ الْمَخْرَجَ الّذِي يَلِينُ عَلَى مَسَامِعِهِ، وَ تُكَلّمَهُ مِنَ الْكَلَامِ بِمَا يُطِيقُهُ عَقْلُهُ فَإِنّ لِكُلّ عَقْلٍ طَبَقَةً مِنَ الْكَلَامِ يَعْرِفُهُ وَ يَجْتَنِبُهُ وَ لْيَكُنْ مَذْهَبُكَ الرّحْمَةَ وَ لا قُوّةَ إِلّا بِاللّهِ.
حق الناصح
وَ أَمّا حَقّ النّاصِحِ فَأَنْ تُلِينَ لَهُ جَنَاحَكَ ثُمّ تَشْرَئِبّ لَهُ قَلْبَكَ 6 وَ تَفْتَحَ لَهُ سَمْعَكَ حَتّى تَفْهَمَ عَنْهُ نَصِيحَتَهُ ثُمّ تَنْظُرَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ وُفّقَ فِيهَا لِلصّوَابِ حَمِدْتَ اللّهَ عَلَى ذَلِكَ وَ قَبِلْتَ مِنْهُ وَ عَرَفْتَ لَهُ نَصِيحَتَهُ وَ إِنْ لَمْ يَكُنْ وُفّقَ لَهَا فِيهَا رَحِمْتَهُ وَ لَمْ تَتّهِمْهُ وَ عَلِمْتَ أَنّهُ لَمْ يَأْلُكَ نُصْحاً إِلّا أَنّهُ أَخْطَأَ إِلّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مُسْتَحِقّاً لِلتّهَمَةِ - فَلَا تَعْبَأْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَ لا قُوّةَ إِلّا بِاللّهِ.
النصيحة يحتاجها كل إنسان أيا كان دوره في الحياة، في المنزل والعمل ومع المجتمع بمختلف طبقاته. البعض قد يذهب ويطلب النصيحة من الآخرين مستفيدا من خبراتهم وتجاربهم في الحياة وهنا قد بين الإمام السجاد حق المستنصح «أو المنصوح» فهو له حق النصيحة من إخوانه المؤمنين، وأن تُقدَّم له النصيحة باللين والرفق والرحمة، مع مراعاة الاختلاف في مستويات العقول والحديث معها بما تطيقه وتتحمله. والبعض الآخر يُكابر ولا يسعى لطلب النصيحة بل يحاول جاهدا أن يصم أسماعه عن سماع أي نصيحة ويمتعض من كل من يقدم له النصيحة في الأمور الدينية والدنيوية ويعاديه وينفر منه وقد يسيء إليه ويؤذيه. هذا السلوك ليس مختصا بزمن معين وقد واجهه نبينا محمد ﷺ وجميع الأنبياء مع قومهم فقد ورد على لسان النبي صالح في كتاب الله تعالى:“فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِين. ”[3]
في كل مجتمع لا يتوقع الناصح بأن يكون محبوبا من الجميع بل عليه أن يتوقع بأن نصيحته قد تخلق له أعداء وعليه أن يقيِّم المصلحة العامة والفائدة من استمراره في تقديم النصيحة وتحمل العواقب أو التوقف سواء كانت النصيحة بشكل عام أو خاص.
منهجنا الإسلامي لم يغفل موضوع النصيحة وقد تم الحث والتأكيد عليها. قال رسول الله ﷺ: ”لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه“. [4] وقال الإمام علي : ”أشفق الناس عليك أعونهم لك على صلاح نفسك، وأنصحهم لك في دينك“. وقال: ”لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا يحبون الناصحين.“ [5]
وإن كان الإنسان يجد مرارة وصعوبة في تقبل النصيحة من الآخرين، ويشعر بعدم الارتياح النفسي إلا أن ذلك يكون لفترة وجيزة في بداية الأمر، ولا شك بأنه سيدرك المصلحة منها لاحقا وسيقدر دور الناصح خصوصا عندما يشعر بأمانته وإخلاصه وسمو أهدافه وعدم رغبته في المجاملة والغش. قال الإمام علي : ”مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش“. وقال الإمام الباقر : ”اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش“. [6]
ماهو المطلوب من الشخص المنصوح أو المستنصح، وكيف يتعامل مع الناصح الذي يقدم له النصيحة؟ هذا ما وضحه الإمام السجاد في رسالة الحقوق بقوله أما حق الناصح بأن تلين له الجانب وتصغي إليه بقلبك وسمعك حتى تفهم نصيحته. وبعد ذلك تنظر في نصيحته وتُقيِّمها فإن رأيته وُفِّق فيها للصواب فاحمد الله وتَقبلها منه واشكره.. وإن لم يكن وُفِّق فيها وعلمت بأنه كان مجتهدا ولم يكن مقصرا فلست مجبرا بالأخذ بنصيحته وعليك بأسلوب اللين والرفق والرحمة ولا تتهمه وتتعدى عليه وتشهر به.
لاشك بأنه من الإجحاف تحميل الشخص المنصوح كامل المسؤولية واللوم والعتاب في الفرار من الناصحين وعدم محبتهم وتقبل النصيحة منهم بل أنَّ الناصح يتحمل أحيانا جزءا كبيرا من ذلك بسبب أسلوبه وسلوكه وقد يكون هو السبب الرئيس في عدم قبول نصيحته. وهذا ما سيتم تناوله في الجزء الثاني من المقالة مع بعض الأساليب الناجعة لتوجيه النصيحة.