رسالة الحقوق: إضاءة براقة
لدي كتيب بعنوان «حق الله وحق النفس والأعضاء» تحدثت فيه عن تلك الحقوق المتمثلة في «حق الله، وحق النفس، وحق اللسان، وحق السمع، وحق البصر، وحق الرجلين، وحق اليدين» على ضوء ما جاء في «رسالة الحقوق» للإمام زين العابدين، علي بن الحسين صلوات الله وسلامه عليه.
وفي مقدمة هذا الكتيب تحدثت - اختصارا - عن الإمام زين العابدين ودوره التربوي في حياة الأمة الإسلامية، وأشرت إشارة سريعة إلى «الصحيفة السجادية» وألقيت الضوء بشكل أكبر على «رسالة الحقوق» كونها موضوع الكتاب.
وكوننا نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام السجاد صلوات الله وسلامه عليه، فقد اقتطعت هذا الجزء من المقدمة، لما فيه من «إضاءة بسيطة جدا على تلك الرسالة» بعد أن حذفت المصادر اختصارا، ووضعت لها بعض العناوين تنظيما وتنسيقا، إضافة إلى بعض الإضافات البسيطة المكملة للموضوع.
الحمد لله الذي أوجدنا من العدم، وتفضل علينا بالنعم، وهو سبحانه وتعالى ذو الجود والكرم، ثم الصلاة والسلام على محمد وآله سادات الأمم، وأنوار الظلم، الذين لا يضل من اقتدى بهم، واعتصم بحبلهم، وسار على نهجهم، ونهل من ينابيع علومهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبعد:
لا شك أن بدن الإنسان معرض للإصابة بالعلل والأمراض التي تؤثر على الصحة سلباً، وقد تؤدي إلى الموت إن لم يبادر الإنسان بالذهاب إلى الطبيب الحاذق ويعرض نفسه عليه، ويتلقى العلاج على يديه إلى أن يمنّ الله عليه بالشفاء والعافية.
وكما أن البدن يصاب بالمرض ويكون بحاجة إلى علاج، كذلك النفس تصاب بالمرض وتكون بحاجة إلى أن يعرضها صاحبها على الأطباء الروحانيين، الذين يعرفون كيفية التعامل معها، ويملكون القدرة على تشخيص دائها ودوائها.
والشيء المهم الذي يجب أن نلتفت إليه هو: أن مرض النفس أخطر بكثير من مرض البدن، ذلك أن مرض البدن لا يؤذي ولا يؤلم إلاّ صاحبه، وإن وصل الأمر إلى الموت فإن المجتمع لن يخسر إلاّ فرداً واحداً، أما مرض النفس فإنه يشكل خطراً كبيراً على الفرد والمجتمع معاً، ذلك أن صاحب النفس المريضة يتحوّل إلى مجرم محترف، لا يخشى الله تعالى، ولا يرعى حرمة للدين والقيم الإنسانية الفاضلة، ولا يتورّع عن منكر فعله، فيعيث في الأرض فساداً، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل صاحب النفس المريضة قد يؤثر على الآخرين، ويفسد أخلاقهم، ويجرهم إلى طريقه المنحرف، وسلوكه الإجرامي، مما يهدد أمن المجتمع وسلامته، ويؤدي إلى انتشار الأمراض الأخلاقية والاجتماعية بين أبنائه.
ومن هنا تتجلى لنا - بكل وضوح - خطورة مرض النفس، وضرورة بل وجوب المبادرة إلى علاجه قبل أن يستشري الداء، ويستعصي الدواء.
وأثناء علاجنا لمرض النفس يجب أن نقوم بعرضها على الطبيب الحاذق الماهر، المتمكن من فنه، الذي يستطيع أن يشخّص المرض دون خطأ أو اشتباه، كما يعرف - تماماً - الدواء الناجع الذي يناسب ذلك المرض، ويضمن شفاء النفس قبل أن تتردّى في المهالك.
وإن استطاع الإنسان العادي أن يدرس الطب البشري، ويتعمّق فيه، ويصل إلى اكتشاف بعض الأدوية النافعة في علاج بعض العلل والأمراض التي تلمّ بجسم الإنسان، فهو أعجز من أن يتوصّل إلى اكتشاف الأدوية المفيدة لعلاج النفس، ذلك أن النفس والروح من أمر ربي، وما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلا.
وإذا كان الإنسان العادي يجهل حقيقة النفس، ولم يستطع التعرف على كنهها، فأنى له أن يشخّص أمراضها، ويكتشف علاجها؟!
كيف؟! وقديماً قيل: فاقد الشيء لا يعطيه! والفلاسفة أنفسهم يشكون من النقص والقصور، فكيف يستطيعون أن يرسموا خطاً قويماً لبناء الإنسان، وتقويم نفسه، وتهذيب سلوكه؟! أو أن يتمكنوا من وضع مناهج الكمال التي يجب أن يلتزم بها المرء ليصبح نموذجاً حياً للإنسان الكامل، وهي ليست بالمناهج المادية التي يمكن للعلماء والمربين والفلاسفة أن يتعرفوا عليها من خلال دراساتهم وبحوثهم، أو أن يكتشفوها - ولو صدفة - في مختبراتهم ومعاملهم العلمية، أو تجاربهم العملية.
إذن فعلاج النفس ليس بيد الناس العاديين، ولا هو من اختصاص الأطباء البشريين، فإنهم غير مؤهلين لذلك، وإنما هو من اختصاص الأطباء الإلهيين، الذين اصطفاهم الله من خلقه، وجعلهم السفراء بينه وبين عباده، ومنحهم العصمة والتسديد، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وحملَّهم مسؤولية إنقاذ الناس «من الغواية، وتبصيرهم من العماية، وهدايتهم إلى الدين القويم، ودعوتهم إلى الصراط المستقيم»، وإخراجهم من ظلمات الشرك والوثنية إلى أنوار الدين والإيمان، وإرشادهم إلى الطريق السوي، وتعريفهم بالحق المبين.
أولئك هم الرسل والأنبياء والأئمة المعصومون المطهرون من آل محمد المصطفى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهؤلاء هم أطباء النفس الحقيقيون، الذين «يدورون بطبهم، قد أحكموا مراهمهم، وأحموا مواسمهم، يضعون ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوبٍ عميٍ، وآذان صمّ، وألسنة بكم»
وليس من شك أن هؤلاء الأطباء سلام الله عليهم أجمعين قد قاموا بمهمتهم على أكمل وجه، وذلك وفق المنهج الإلهي الحكيم، الذي رسمه لهم الباري جل وعلا من أجل إصلاح الإنسان، وتقويم سلوكه، وتهذيب نفسه، والأخذ بيده نحو الخير والصلاح، وإرشاده إلى طريق الفضائل ودرب الكمال.
والإمام علي بن الحسين زين العابدين هو واحد من هؤلاء الأطباء العظام، فهو إمام معصوم، وامتداد طبيعي لخط النبوة والرسالة، وقد تحمّل مسؤولية الإمامة وقيادة الأمة بعد استشهاد أبيه الحسين بن علي على أرض كربلاء المقدسة.
وكانت له صلوات الله وسلامه عليه أدوار مهمة قام بها على أكمل وجه، وسجلها له التاريخ بأحرف من نور، وكلمات من ذهب، كقيامه صلوات الله وسلامه عليه بفضح النظام الأموي، وتزييف أكاذيبه وأباطيله، والتعريف بثورة أبيه الحسين، وبيان أهدافها العظيمة، وغاياتها النبيلة، والعمل على ربط الناس عاطفياً وعقائدياً بأهل بيت العصمة والطهارة من خلال التعريف بهم وبمكانتهم وقدسيتهم، والتفجع لما حلّ بهم، ووقع عليهم من الظلم والعدوان.
وكدوره في إيقاظ الضمير الإنساني لدى الأمة، وتأجيج مشاعرها الإنسانية من أجل الثورة ضد الظالمين الغاصبين... إلى ما هنالك من أدوار كبيرة لا يمكن شرحها وتفصيلها في هذا التقديم المختصر.
ومن أهم أدوار الإمام السجاد محاربة الانحراف والإنهيار الخلقي الذي منيت به الأمة الإسلامية في عصره صلوات الله وسلامه عليه نتيجة التحاقها بركب الظالمين، وانسياقها وراء الملذات والشهوات على حساب القيم العليا، والأخلاق الكريمة، والآداب العظيمة.
فلقد عمل - بكل جد ونشاط - في مجال التربية الإسلامية، وأسس المدارس، ووضع المناهج الأخلاقية من أجل بناء الإنسان، وإعادة صياغته من جديد.
ومن أعظم ما أثر عنه سلام الله عليه في هذا المجال «الصحيفة السجادية» التي هي خير دستور في ربط الإنسان بالملكوت الأعلى، حيث الله والدار الآخرة والنعيم المقيم، وفيها من الأدعية والمناجاة والابتهالات ما يلامس شغاف القلوب، ويغرس الإيمان في النفوس، ويربي الإنسان على العفة والطهارة والفضيلة.
يقول القرشي في وصفها «أما الصحيفة السجادية فهي من ذخائر التراث الإسلامي، ومن مناجم كتب البلاغة والتربية والأخلاق والأدب في الإسلام، ونظراً لأهميتها البالغة سماها كبار رجال الفكر والعلم بأخت القرآن، وإنجيل أهل البيت، وزبور آل محمد .
ومما زاد في أهميتها أنها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة، والمشاكل السياسية القاتمة على حياة المسلمين، فأحالتها إلى سجون مظلمة، ليس فيها أي بصيص من نور الإسلام وهديه وإشراقه، فقد انشغل المسلمون بالتكتل الحزبي والسياسي سعياً وراء مصالحهم وأطماعهم، ولم يعد هناك أي ظل لروحانية الإسلام وتعاليمه وآدابه وحكمه.
لقد فتحت الصحيفة السجادية آفاقاً جديدة للوعي الديني، لم يكن المسلمون يعرفونه من ذي قبل، فقد دعت إلى التبتل، وصفاء الروح، وطهارة النفس، والتجرّد من الأنانية والجشع والطمع، وغير ذلك من النزعات الشريرة، كما دعت إلى الاتصال بالله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة، الذي هو مصدر الفيض والخير لجميع الكائنات»
ونظراً لما تنطوي عليه هذه الصحيفة المباركة من قيم هي أثمن من كل كنوز الأرض، فقد حظيت باهتمام خاص على مستوى شعوب العالم، حتى تمت ترجمتها إلى الكثير من اللغات الحية، كالإنجليزية والألمانية والفارسية والأردية والفرنسية، وغير ذلك من اللغات، كما عكف العلماء والفضلاء على دراستها وشرحها حتى زاد عدد شروحها عن ثمانية وستين شرحاً، أما الخطاطون فقد قاموا بكتابتها بخطوط بديعة جميلة، وعملوا لها زخارف في قمة الروعة والجمال، كل ذلك مما يدلل على عظمة هذه الصحيفة المقدسة في نفوس المسلمين.
وإلى جانب هذه الصحيفة المباركة هناك «رسالة الحقوق» وهي أيضاً رسالة جليلة عظيمة، ذات فوائد جمة، وعوائد كثيرة، تحدث فيها الإمام عما يجب على الإنسان أن يقوم به من واجبات، ويلتزم به من حقوق.
فهي رسالة تشتمل على خمسين حقا، ذكرها الإمام السجاد إجمالا، ثم شرع في ذكرها تفصيلا وتبيانا، مؤكدا تعلقها برقبة الإنسان، وأنه يجب عليه أن يؤديها تجاه ربه ونفسه وأرحامه ومجتمعه، وسائر الناس حسب منازلهم ومراتبهم.
فهي دستور متكامل في تنظيم حياة الإنسان الخاصة والعامة، وعلى العصيد الديني والدنيوي على حد سواء.
وقد كتب الإمام زين العابدين هذه الرسالة القيمة إلى بعض أصحابه، ورواها عنه أحد تلاميذه العباقرة الكبار، المتصف بالعلم والمعرفة والوثاقة، وهو «ثابت بن أبي صفية» المشهور «بأبي حمزة الثمالي» الذي روي أن الإمام أبا عبد الله الصادق قال في حقه، وفي بيان مكانته ومنزلته: «أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه»
وقد روى العلماء القدماء والمحدثون «رسالة الحقوق» في مؤلفاتهم، وذكروها في مصنفاتهم، مع التسالم على صحتها، وصحة نسبتها إلى الإمام زين العابدين .
فقد رواها المحدث الجليل الشيخ الصدوق في «الخصال» و«والأمالي» و«من لا يحضره الفقيه» وأبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني في كتابه «تحف العقول» وأوردها مع الشرح المحدث المولى محمد تقي المجلسي الأول في «روضة المتقين» والعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي في «بحار الأنوار» وأبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي صاحب «مجمع البيان» في «مكارم الأخلاق» والمحدث حسين بن محمد النوري في «مستدرك الوسائل» والسيد محسن الأمين في «أعيان الشيعة» والشيخ عبد الله البحراني في «عوالم العلوم والمعارف» والسيد عبد الرزاق المقرم الموسوي في «الإمام زين العابدين» والشيخ باقر شريف القرشي في «حياة الإمام زين العابدين» غيرهم الكثيرون
وكما حظيت هذه الرسالة الذهبية بالاهتمام رواية وتدوينا، كذلك تناولها الكتاب والفضلاء في مؤلفاتهم شرحاً وتعليقاً، وكان ممن قام بشرحها السيد عباس الموسوي، والسيد حسن القبانجي، والشيخ صالح بن الشيخ مهدي الساعدي النجفي، وللدكتور رزاق مخور الغرواي «دراسة موضوعية لأسانيد هذه الرسالة ومتنها» ولعل آخر من كتب عن هذه الرسالة القيمة، هو الأخ العزيز، والصديق الجميل، الأستاذ إبراهيم بن سلمان أبو خمسين في كتابه «رحلة حقوقية في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين» في طبعته الأولى سنة «1440 هـ 2019م» نشر «دار السكرية في جمهورية مصر العربية»
كما استقى منها التربويون وعلماء الأخلاق أسساً ومناهج في فن التربية والتعليم، كونها من نفائس الرسائل التي تبني الإنسان روحياً ومعنوياً، وتقيه من الرذيلة وشرها المستطير.
ولقد تحدث عنها السيد حسن القبانجي فأكد أنها «مقومة الأخلاق، ومقدرة القيم، والمشرف الأعلى على جميع منازع الناس وتطوراتهم في علومهم ومعارفهم وسلوكهم، وسائر اتجاهاتهم العقلية والسياسية والاجتماعية.
إنها رسالة تهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى الأعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل بها عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعاً واستمتاعاً بالحياة...»
كما أكد القرشي أن هذه الرسالة العظيمة «قد وضعت المناهج الحية لسلوك الإنسان، وتطوير حياته، وبناء حضارته على أسس تتوفر فيها جميع عوامل الاستقرار النفسي، ووقايته من الإصابة بأي لون من القلق والاضطراب وغيرهما مما يوجب تعقيد الحياة»
وأشار إلى أنه يعتقد «أنه لم يسبق نظير لمثل هذه الحقوق التي شرعها الإمام العظيم، سواء في ذلك ما شرعه العلماء في عالم الفكر السياسي، أم الاجتماعي، وغيرهما مما قننوه لحقوق الإنسان وروابطه الاجتماعية، وأصوله الأخلاقية، وأسسه التربوية»
وأما الدكتور رزاق مخور الغراوي فيؤكد أنه «على الرغم من اهتمام المعنيين بمسألة حقوق الإنسان، فإننا قلما نجدها واقعاً في حيز التطبيق، وبخاصة في العالم الثالث، بينما الإسلام - دين الرحمة لكل العالم - قد قرر تلك المبادئ في أكمل صورة وأوسع نطاق، وقدمها للإنسانية منذ أربعة عشر قرناً، فسبق بها سبقاً لا مثيل له.
وكانت خلاصة تلك المبادئ السامية «رسالة الحقوق» للإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، تلك الرسالة التي تهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض، أفراداً وجماعات، حكومات وشعوباً، دولاً وأجناساً، وحسبها عظمة وسمواً أن غارس بذرتها نبعة شجرة النبوة، وأصل معدن الحكمة الإمام زين العابدين .
وهكذا فإن البحث في موقف الدين الإسلامي العظيم من حقوق الإنسان ومدى اهتمامه بها، لا يمكن تحديده في فترة معينة من التاريخ، ولا استخلاصه من نصوص مجتزأة عن سياقها، ورسالة الحقوق للإمام السجاد ما هي إلاّ دليل واضح على أن الإسلام ليس ديناً أو معتقداً فقط، وإنما هو دين ودولة ونظام اجتماعي لابد أن يسود بمفاهيمه وأفكاره المتميزة»
إلى أن خلص في ختام دراسته إلى أنه «يمكننا القول: إن رسالة الحقوق التي كتبها لنا الإمام زين العابدين هي أول إعلان إسلامي بل عالمي لحقوق الإنسان، كما ثُبّت قبل ألف وأربعمائة سنة، وقبل أن يعرف العالم إعلانات واتفاقيات ومبادئ الحقوق بهذه النظرة الشمولية الرائدة»
وكما أن هذه الرسالة العظيمة هي «أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان» كذلك كانت وما زالت وأظنها ستبقى هي الأكمل والأشمل بين جميع القوانين والدساتير التي تتكلم عن تلك الحقوق، أو تنظر لها، وإلى الآن لم نجد في جميع القوانين الوضعية، والدساتير البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان ما يرقى إلى مستوى هذه الرسالة، لا من حيث المحتوى والمضمون، ولا من جهة السعة والشمولية.
فمن أعظم ما يمتاز به الدين الإلهي والقادة الإلهيون: الاهتمام بجميع أبعاد شخصية الإنسان، سواء كانت مادية، أو روحية، أو عقلية، أو اجتماعية... أو غيرها، لذلك ترى الدين كما يتحدث عن أمور الإنسان الدنيوية كذلك يتحدث عن أموره الأخروية، وكما يتحدث عن علاقة الإنسان بالإنسان يتحدث عن علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، عكس القوانين والتشريعات الوضعية التي تحصر نفسها في الجوانب المادية والاجتماعية العامة، وتغفل عن سائر الجوانب الأخرى.
ولهذا تظل القوانين البشرية تعاني من النقص والقصور، عكس القوانين التي يأتي بها القادة الإلهيون، فإنها متصفة بالشمولية والكمال.
وقد أجاد أخونا الأستاذ إبراهيم بن سلمان أبو خمسين في التفاتته الجميلة إلى هذه النقطة، وإشارته إليها، بقوله في افتتاح مقدمة كتابه رحلة حقوقة في رسالة الحقوق: «سعى الإنسان في تاريخه الطويل نحو التكامل، وحاول جاهدا أن يحصل على حقوقه، وأن يضع القوانين واللوائح التي تنظم له تلك الحقوق.
ليس حقوق الإنسان فقط بجنسه وعمره، وما يتعلق بها من جميع أنواع الحريات، بل حتى حقوق الحيوان والنباتات والجمادات وغيرها، لذا نرى إن جميع الرسالات السماوية وكافة الرسل التي بعثها الله سبحانه كفلت كل تلك الحقوق، ونزلت التشريعات التي تبينها وتنظمها له تلك الحقوق.
وما زالت الإنسانية تتدرج في الرقي حتى تم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واعتمد بموجب قرار الجمعية العامة «217 ألف د-3» المؤرخ في 10 ديسمبر 1948م، والذي يتكون من «30» مادة.
ولكن حتى هذه الحقوق - مع خالص الشكر لواضعها - تعد ناقصة، فهناك حقوق أخرى، كحقوق الخالق المنعم، التي لم تتطرق لها هذه القرارات، وحري بنا نحن الإمامية أن نفتخر بأن إمامنا الرابع: الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قد وضع للإنسانية ما يربو على الخمسين حقا لم يبينها أحد قط قبله بذلك الترتيب والتنسيق والتكامل قبل ثلاثة عشر قرن ونصف، وتسمى تلك برسالة الحقوق»