مع شخصيات الفكر والأدب - الأستاذ إبراهيم سلمان بوخمسين «2»
فتى الأحساء
ابراهيم سلمان بوخمسين
أفتتح سيرته بهذا البيت من قصيدة الطلاسم لإيليا أبي ماضي لاستشهاده عن سيرة طفولته وليس انكارا منه للحياة:
أنا لا أذكر شيئا من حياتي الماضية
لست أدري
ولكنه يرد في نفس الوقت بأنه موقن بالبعث والنشور مستشهدا بأبيات رد على الطلاسم للملا كاظم الصحاف رحمه الله:
ولنا من بعد هذا الموت بعثٌ ونشور
لم يكن في قدرة المبدع عجزٌ وقصور
كنت أدري
الصورة أيام الصبا
منذ أن فتحت عيناي وابصرت على هذه الحياة رأيت ابي الأديب الذي حفظ القرآن باكرا والأحاديث النبوية والقصص التاريخية والأشعار، لقد كان والدي قارءً من الدرجة الأولى وكان يملك مجموعة من الكتب الجيدة، وكانت له مكتبة عامرة بالكتب، وكان الكتاب دائما تحت مخدته، بالرغم من أن الوالد كان يقضي وقتا طويلا بعمل بخياطة البشوت، وبالسفر الى الأماكن المقدسة إلا أنه لم يمنعه ذلك من القراءة بنهم. كان محاورا جيدا وهادئا لما يملكه من معلومات تاريخية وشهدت كثيرا من تلك المحاورات التي ضمت شيوخا ومثقفين ومعلمين. كان دائما يطلب مني أن اصحبه لزيارة ابن خالنا المؤرخ الشيخ جواد الرمضان وكان يتبادل معه الأحاديث في مختلف المجالات وكان المؤرخ يسأله عن الأنساب. وكنت أصحبه ايضا الى سماحة الشيخ الملا طاهر البحراني وهكذا... رأيت والدتي أيضا ملازمة لقراءة القرآن وكتب الأدعية الى الساعة الأخيرة من حياتها الى جانب ملازمتها مجالس الذكر في المجالس الحسينية.
رأيت العم الحاج محمد حسين بوخمسين الأديب الشاعر والمعلم الذي كان خطيبا حسينيا لآية الله الشيخ موسى بن الشيخ عبدالله بوخمسين، والذي كان يقرض الشعر الفصيح، وكان هو من ربى والدي وعلمه، جلست وتعايشت معه ردحا من الزمن في نفس السكة والحارة ومجلس الخياطة. كان عمي يجيد كتابة التأريخ بالشعر ليوثق الأحداث ومن شعره مادحا المرجع الشيخ حبيب القرين رحمه الله:
لقد أصبحت هجر تجر ردا الفخر.. وتسمو جلالا وهي باسمة الثغر
بشيخ حبيب العالم العلم الذي.. أضاء بنور العلم والفضل كالبدر
الى أن يقول مؤرخا وهنا محل الشاهد:
ولما خصصنا واستنارت بلادنا.. قلت أرخ: ”نوره ضاء في هجر“
”1361 هـ“ [1]
أحداث ربما غيرت حياتي:
كما أسلفت بأن والدي كان يحب السفر. أخبرتني والدتي بهذه الحادثة. تقول ذهبنا الى العراق وانا رضيع في أشهري الأولى وهناك في مقام الإمام الحسين وضعتني بجانبها وقامت تصلي وما إن رفعت رأسها لم ترني، ولكن كان من أبناء عمومتي الحاج حسين أحمد المحمد بوخمسين ”أبو امير“ والذي كان من كبار تجار المشالح في الكاظم، يصلي بنفس المكان فرأى تلك المرأة التي اختطفتني فهدم صلاته وجرى وراءها. دخلت المرأة الى مطعم ودخل وراءها فلم يشاهدها وسأل عنها أهل المطعم فنفوا أن تكون امرأة دخلت فلاحظ بابا في المطعم فدفره ورأى تلك المرأة فأخذت تصرخ ولدي، ولدي لا تأخذوه. لكنه زجرها وقال لها يا سارقة تسرقين الطفل
من أمام أمه وهي تصلي فأخذني عنوة وبالقوة منها وأعادني لوالدتي. تخيلوا ما ذا كان سيصير مصيري؟!.
عاد والدي الى الوطن، بعد انتهاء الزيارة وكما تعرف يقولون الأطفال أحباب الله. تقول والدتي كثيرا ما تتداول الأيدي الأطفال خصوصا اذا خرجوا بهم لزيارة الأحباب والجيران. حملتني احداهن وكان عمرها تسع او عشر سنوات فسقطت من كتفها على رجلي وحدث ما لم يكن بالحسبان كسر برسغ القدم اليسرى فحرمت من المشي سنينا من طفولتي، أنا لا أذكر الشيء الكثير من هذه الفترة الا أن الوالد كان يأخذني الى الكويت للعلاج لربما كان الطب هناك متوفرا أكثر. قطنا فترة من الزمن في الكويت وكان الوالد يعمل بخياطة البشوت.
كان الوالد يسافر للعمل أيضا بالعراق وسوريا إذ كانت تجارة وخياطة المشالح رائجة هناك وكثيرا هم العوائل الأحسائية التي هاجرت الى بلاد الشام للعمل هناك. قرر والدي بالمجاورة في العراق فإبتاع منزلا في مدينة الكاظمية بجوار الإمامين الجوادين وسجلني وأخي عبدالله في مدارس المدينة، درسنا نصف سنة أو أقل وكان الزي موحدا للطلاب هو قميص أبيض وشورت وحذاءً أسودين وأذكر اني تابعت لبس هذا الزي لما رجعنا الى الوطن في المدرسة الابتدائية في الصف الأول.
كان لوالدي زوجتان في منزلنا بمدينة الكاظم، استيقظنا باكرا في ذلك اليوم وأعدت والدتي الفطور ثم طرقت الباب لإيقاظ والدي فلم يرد، كررت الأمر مرارا بأعلى صوتها وأخذت بالصراخ سمعنا ابن عمنا الذي كان معنا بالمنزل فجاء مسرعا وطرقنا الباب ولكن دون جدوى. قام ابن العم بكسر الباب وإذا بوالدي وخالتي في فقدان وعي كامل إذ كان ذلك فصل الشتاء حيث اشعل والدي موقد فحم للتدفئة وهي تبعث ثاني اكسيد الكربون والنوافذ مغلقة فحصل مالا تحمد عقباه. استدعي الإسعاف فحملوهما الى الطوارئ لإسعافهما لكن الخالة مريم المجاد رحمة الله عليها قد قضت وكان أبي على الرمق الأخير فأسعف.
وخلال الدراسة قامت ثورة عبد السلام عارف وفرضت الأحكام العرفية وداهم الانقلابيون منزلنا للبحث عن صور عبدالكريم قاسم ولكننا تخلصنا منها قبل ذلك. فقرر والدي العودة الى ارض الوطن. وقفلنا راجعين وسلكنا الطريق الى بغداد في باص صغير ليوصلنا الى دولة الكويت وكان في كل محطة ينزل مجموعة من المسافرين وتركب مجموعة أخري.
وفي محطة بغداد نزلت احدى الأسر فنزلت معهم ضانا أن والدتي نزلت وواصل الباص طريقه الى الكويت. جعلت انادي والدتي وأنا أبكي ولكن بدون جدوى. شاهدني أحد الجنود فأخذني ووضعني على المصفحة حيث كانت الأحكام العرفية. كان المنظر مهيبا وأنا جالس على المصفحة وأضرب بكلتا رجلي كأني اركل كرة ”باكوارد“، هذا المنظر لا يبارح خيالي ما عشت ابدا. بعد ساعات رجع الباص ليجدوني حيث أنا وأخذوني. يقول لي والدي عندما افتقدوني طلبوا من صاحب الباص الرجوع لكنه رفض، فقاموا عليه الركاب جميعا ورضخ لطلبهم فرجع.
عدنا للوطن مرة أخرى وكنا عند رجوعنا من السفر في كل مرة ندخل من دروازة الخميس سالكين سكة القطان ثم سكة بسطة ثم حارة السدرة حيث منزلنا هناك ذو الطراز القديم المبني بالطين والجص والمسقف بجذوع النخيل، والدهليز والحوي وحوش الأغنام والسطوح. كان هذا قبل قص وعمل شارع الفوارس. قرر الوالد أن يحط عصى الترحال لكي تستقر أمورنا ونواصل الدراسة وسكنا بمنزلنا بالحي وكان أخي الأكبر علي موجودا بالمنزل مع عياله فوجدت الكثير من الألعاب المحلية عند أبناء أخي فأهدوا لي شيئا منها كالزنابير والمقورات. استهوتني هذه الحرف المحلية فقمت بصناعة عربيات خشبية وكفراتها من مغاطي قناني البيبسي حيث نثقب وسطها وندخلها في مطاط ونضع في وسطها مكرة وهكذا تصبح عربة صغيرة نركب فيها ونجرها. وسجلنا والدي بمدرسة الهفوف الأولى بجوار بلدية الهفوف القديمة.
تعلمت مهنة الخياطة من والدي الحاج سلمان حسين بوخمسين ووالدتي الحاجة آمنة بنت أحمد العبدالله بوخمسين ”المطوع“ ويسمى المطوع لشدة إيمانه وكان وكيلا عن آية الله الشيخ موسى بوخمسين ثم من بعده وكيلا عن أبنائه العلامة الشيخ جواد والعلامة الشيخ باقر وأخوته. استهوتني ايضا مهنة الخياطة وهي حرفة يدوية أيضا فكان تعلمي خياطة المشالح بمجلس العم أحمد بن عمي محمد بوخمسين في سن الثانية عشر.
الصورة وأنا ازاول مهنة الخياطة، خياطة ”التراجيب“ بمجلس العم أحمد بوخمسين
ثم انطلقت منها الى المجالس المشهورة كمجلس المرحوم ابراهيم البن حجي والمهدي وغيرهم كثير. كنا نقضي طيلة الاجازات المدرسية مع الوالد والعائلة بدولة البحرين كذا سنة بخياطة المشالح وكانت المتعة شديدة بالعمل في دولة أخرى. وكما يقول المثل صنعة في اليد أمانا من الفقر، ولم أترك هذه المهنة الا بعد سنين من تخرجي من الجامعة.
شغفت بالقراءة وكنت اقرأ الكثير من كتب أبي ككتاب المراجعات وقصص الأنبياء ونهج البلاغة وغيرها من دواوين الشعر التي يمتلكها الوالد.
لقطة لمكتبة الوالد ويلاحظ فيها كتب قديمة
وكنت أجمع بعض أبنا العم من أترابي وأحدثهم بذلك وأقصص عليهم ما قرأت، حتى أني عملت عشه من الخشب والسعف في منزلنا وكنت أدعوا فيها اترابي فكانت بمثابة منتدى مصغر.
بعدما انتهيت من المرحلة الابتدائية والتحقت بالمرحلة المتوسطة تعرفت على الكثير من أبناء عمومتي والأصدقاء فأخذت تكبر الآمال معي فأنشأنا نادي رياضي أسميناه النادي العربي برئاسة الأستاذ عبدالكيم بوخمسين وقيادة الكابتن المهندس السيد عبد الكريم المسلم وثلة من الأحباب، كالدكتور محمد صالح بوخمسين والمهندس أحمد علي الرمضان، والمهندس محسن الغريب، والمهندس أحمد الصحاف والأستاذ بديل الفهيد واخوانه فاضل وعبدالهادي.
بطاقة اشراك عضوية للنادي
حادثة الجمل:
في أحدى التمرينات وبجانب التل الموجود بمقبرة الخدود ”البغلي“ كنا نتمرن ونلعب كر القدم وكان مجموعة من ابناء العم من المتفرجين فمر قطيع من الجِمال فرشقوهم بالحجارة فما كان الا أن قام صاحب القطيع وهو على احدى الجمال بمهاجمتنا ففررنا يمينا وشمالا وأخذت أنا طريق التل ضاناً ان الجمل لن يصعد اليه، وما هي الا ثواني وإذا بالجمل من خلفي وأنا أصرخ على راكبه الله يخليك انا لست ممن رشقوك ولكن لا جدوى، كلما نزلت من رابية وصعدت أخرى فإذا هو خلفي. استسلمت أخيرا للقدر فسقطت على ظهري وانا ارى خف ذلك الجمل كالرحاة التي سوف تكسر أضلاعي، وفي حركة سريعة ماهرة من الراكب الوى عنان الناقة، فقمت انفض الغبار وأخذ الشباب يضحكون عليَّ فقلت لهم كدت أموت وأنتم تضحكون.
في الصورة: من اليمين د. محمد صالح بوخمسين، المترجم له ”ابراهيم“، حسن الحميدي والصورة لأحدى المسابقات الكروية، ويتبين من الصورة قدم المبنى والباب الخشبي ذو المسامير بوقبة.
كلفت أن أكون مستشارا للنادي ومسؤول القسم الثقافي فيه حيث كنا نصدر صحيفة ”نشرة“ جدارية يكتب فيها أخبار النادي ومقالات الإخوان.
في هذه الفترة ازداد طموحي بالقراءة فذهبت مع اصدقاء النادي نشتري ونقرأ مجلة النهضة الأسبوعية الكويتية ومجلة العربي الكويتية الشهرية ومجلة المجلة ومجلة الحدث وغيرها من الدوريات المشهورة حينذاك، وكنت ارتاد بعض المكتبات كمكتبة التعاون بمحلة الكوت.
قرأت مجلات سوبرمان والوطواط ولولو وطبوش وغيرها وكنا نملك الكثير منها في سحاحير الشاي الكبيرة.
كان من عشقي للكتاب أن ذهبنا للكويت والإمارات لشراء الكتب والمجلدات وانتم تعرفون صعوبة ادخال الكتب آنذاك، وقد ادى بنا ذلك الى المجازفة أنا وزوجتي عدة مرات ولكن توفيق الله لنا مما امتلكنا مكتبة ثرية.
كنت أكتب بعض الخواطر لبعض المناسبات التي مرت بحياتي ببراءة وأهات الشباب واللوعة والفراق أيام الدراسة الجامعية وتطلعات المستقبل، وأذكر انني كتبت خاطرة ونحن نذاكر في منزل العم السيد هاشم المسلم باننا نحن المجموعة وبعد المثابرة والجد والاجتهاد قد نجحنا جميعا وانتقلنا الى الصف الثالث ثانوي، أخذها السيد عبدالكريم وقرأها على والديه فنالت استحسانهم وشكروني عليها. لكن للأسف لم أحتفظ بها كما اني أنني فرطت ببقية الخواطر التي كتبتها.
يتبع...